الأربعاء، 25 أبريل 2018

الخروج من الشقة


أدرت المفتاح في طبلة الباب,ممنياً نفسي باللجوء إلي كهف الوحدة وقوس قزح الصمت,عقب يوم طويل لاقيت فيه ما يلاقي الواحد من أقداره في الحياة,عدت منهزماً ككل يوم أحمل داخلي الحلم وتحاوطني خيبة الرجاء,وأتذكر مقولات المُسنات في أسرتنا"خيبة الأمل راكبة جمل!"..أشعر أن الجمل يسير فوقي بتؤدة المتمهل ليزيد آلامي!
رأيتهم وجوههم في المرآة المعلقة أمام مدخل الشقة,ثلاث رجال يستقبلونني بأقفيتهم العريضة,ووجوهم تتجه شطر المرآة!جفلت علي الفور وكدت أركض-وأنا رجل مضطرب الأعصاب تملأني الهواجس المخيفة ,تقبض علي طمأنينتي بأنيابها الحادة فالحمد لله إنني لم أصب بسكتة قلبية-لولا أن وجدت رابعهم كان يقف خلفي دون أن أشعر,فاصطدمت به بشدة أوجعت عظامي,وأطلقت تأوهاً عالياً يجمع بين الألم وطلب النجدة,ربما لو سمعته في فيلم سينما لتأثرت وسالت عيناي بالدمع,لأول مرة منذ أن دخلت أركز في وجوههم,حين تلفت حولي خوفاً وطمعاً,راعني مظهرهم القبيح ,الصالة بها بصيص من نور تبينهم من خلاله,وجوه قبيحة ورائحة منتنة كادت روحي تخرج منها,طوقني الأربعة من كل الجهات,نفس الأعين العكرة ذات النظرات الوقحة,هي هي العيون التي أقابلها كل ساعة,لكن هذه المرة علي غير انتظار,نفس الرائحة التي كنت أقنع نفسي ألا وجود لها وإنها تتهيأ لي كسبب نفسي لنفوري من الناس,الآن فقط أتأكد منها.
قبضوا علي رقبتي وتحركنا في الظلام نحو الطاولة الخشبية,أجلسوني فوقها ورقدوا علي كراسيّ الهشة المسكينة,سمعتها تئن تحت مؤخراتهم الثقيلة.
لا أعرف ما الذي أنطقني الجبن أم الزبد...آسف! الجبن أم الشجاعة فمنذ أن حدث لي ما حدث وأنا أهذي أحياناً...لا طوال الوقت أهذي حتي أنهم وضعوني في عنبر المجانين ,وبجواري الآن يقبع المهدي المنتظر يحاول إقناع هتلر بالعدول عن حرب عالمية ثالثة,ويقفز بينهما لأعلي, حامي الأرض من ضربات النووي شاهرا طاسة يوجهها نحو السماء صارخاً"احذر يا ترامب!تأدب يا كيم يونج"
-ماذا تريدون؟
رد أحدهم:
-بل ماذا تريد أنت؟
-لا أريد شيئاً...
-كارثتك أنك لا تريد شيئاً,تتمني في خيالك فقط لكنك لا تريد في أعماقك,قانعاً بيومك التافه السخيف يتكرر طوال سنوات عمرك!
-كلا أريد...أريد أن تتركوني أنام لأتمكن من استقبال يوم سخيف آخر!
هزأ الآخر وهو يجذبني من ياقة معطف لم يفلح بوقايتي من برد ديسمبر القاسي,فتركني داخله أرتجف بارد الأطراف وأرنبة الأنف:
-اذهب ونم في الشارع,فهذه شقتنا.
استجمعت أرواح المرحومين أبطال الإلياذة وهم يمزقون بعضهم بلا رحمة في ساحة الوغي,فصرخت-لكن في صوت خافت!-:
-هذه شقتي أنا...سأعفو عنكم!لن أستفسر عن كيفية دخولكم ولا ما ألحقتموه بي من فزع,فقط ارحلوا الآن وسأنسي كل شئ
علت القهقهات من الجهات الأربع,كأن العالم بأسره يسخر مني ويضحك عليّ, تلقيت صفعة من واحد منهم لم أتبين من هو تماماً فقد كانت مباغتة وسريعة,تلون وجهي بالحمرة غضباً وخجلاً وغيظاً من قلة حيلتي وهواني علي الناس.بكيت بحرقة وعلا صوت صراخي وأخذت أرفس وأضرب وهم لا يتحركون لا يشعرون,شتمت بكل قواميس السباب القذر,حطمت المرايا والأثاث,هرعت نحو النافذة ألعن النائمين وصوتي يرن في فضاء الشارع ويجلجل في جنباته,تكالب الأربعة عليّ أطرافي الأربعة,شلّوا حركتي وأسروني...آه تلك الرائحة تكاد روحي تزهق من شدة بشاعتها,كأني أُلقي بي في مرحاض عمومي لم يدخله عامل نظافة يوماً.
جردوني من ملابسي في عز البرد بلا رحمة وجروني نحو الشارع عنوة,بعد أن أشبعوني ضرباً.
ركضت والدموع تملأ عيني حتي قابلتني سيارة بيضاء,نزل منها رجلان ملابسهم بيضاء,ملوحين لي برداء أبيض فردت لهم ذراعي فألبسوني إياه بالمقلوب وأحكموا وثاق يدي حول خصري.
يقولون أنني أتخيل كل ما حدث وأن شهادة الجيران تكذب جميع أقوالي...آه الكلاب أولاد الأفاعي نجحوا فعلاً في إخراجي من الشقي,ورموني هنا,أتعرض لضربات الطاسة الطائشة في سبيل حماية الكوكب!

رواية كشهقة الموت هي


يستقي سعيد نوح روايته"كلما رأيت بنتاً حلوة أقول يا سعاد"من شهقة الموت الأخيرة التي قد تخرج الروح بعدها بسنوات,فالتجربة التي عايشها صاغها في عمل روائي ينضح بحفيف أجنجة عزرائيل تُسمع بين طيات الرواية أسفاً علي وجود الإنسان في الحياة قبل أن تأسف علي موته,كم  هو رخيص الإنسان وسهل اقتناصه بمدفع الموت الحاصد لما لا عدد له من الأرواح البشرية,بعضها يقترب من الملائكة كسعاد والكثير منها لم يخرجوا من همجيتهم الشيطانية.
هذه الرواية جرح نازف لا تطبيب له سوي الكتابة ففي التذكار ما يسلي الروح عن حرمانها,فيستعيد الرواي الحكاية من أولها,ويكتب سيرة الفقد والفقيدة,بشخصية رئيسية تموت فتظهر شهادات من عايشوها؛لأن ما يتركه الإنسان العادي في هذه الحياة ليس إلا ذكري,فأنا وأنت لن نظهر في كتب التاريخ ولا النشرات الإخبارية,غير الأسرة والمعارف لن يذكرنا أحد,وكل من عرف سعاد كلهم يحبونها بدءً من أبيها وأمها لزملائها في العمل,حتي هويدا مشاعرها رمادية,رغم غيرتها لا تقدر علي كراهيتها بل وتحولها بعد وفاتها إلي شخصية صوفية تطلب منها المدد.
"كلما رأيت بنتاً حلوة أقول يا سعاد"مرثية طويلة لمآل الإنسان في الحياة,نص منسوج بمرارة المعايشة المباشرة مع الموت الذي يظل علي الدوام"لا يوجع الموتي,الموت يوجع الأحياء".

الاثنين، 23 أبريل 2018

قراءة في مسلسل نابليون والمحروسة 2


يعالج المثقف الفرنسي رقية وينزع الخيط "التحصين"عنها,يدفن أبيها ويرسم لها لوحة لساعة الوداع,ويسعي  لإلحاقها عند انسبائها في المحروسة.
البيت الجديد يضم الأسرة القاهرية المكونة من الأب الحداد"هادي الجيار"والابن الأكبر حسن"بهاء ثروت"وشقيقه علي"شريف سلامة"وأختهما زينب وعلي رأسهم خديجة سيدة الداربكل ما تحمله الكلمة من معاني المسئولية والاحتواء,لا يختلف الحال كثيراً في الشمال عن الجنوب,الأزمات واحدة تطحن الكل.
لولا ديكور عادل المغربي وأزياء سهي حيدر لوقع هذا العمل في فوضي عارمة بالنسبة للمرئيات البصرية,قام شوقي الماجري بعمل كونشيرتو بصري من الديكور والملابس يعزف مع الكاميرا لوحات تشكيلية لمصر في القرن الثامن عشر,ملابس الشعب وديكور بيوتهم بالمقارنة مع ديكور وملابس قصور المماليك وأعضاء الحملة  يبرز لنا ببلاغة الصورة عمق الاختلاف بين أطراق الملحمة التي نحن بصددها,الصورة والضوء والديكور والملابس يذكرانني بأعمال رامبرانت بصورة كبيرة.
وكما وقع دينون في هوي رقية يقع علي هو الآخر,ثنائية جديدة تظهر ضمن الأحداث,الفرنسي والمصري يسعيان لقلب الأرملة الثكلي,وهي غائبة في عالم آخر...تعيش بروحها مع الموتي الغائبين الأحباب المختفين,لكن تبقي الحياة هي الحياة لابد أن تستمر مهما بلغت بشاعة قسوتها,والمأساة السورية اليوم دليل حي علي جاذبية الحياة واستمرارها ولو علي ذروة قمة الآلام,واستناداً لجينات الإنسان المرتبطة بالحياة تقبل رقية خطبة علي,ووسط هذا الانشراح القصير في مسار الأحداث تموت ورد"أروي جودي زوجة حسن علي يد زوجها المتعصب...بهاء ثروت طاقة فنية لاتجد حتي اليوم من يستغلها بصورة كاملة,ولن تجده طالما يتعامل الجمهور الحالي مع الهراء الذي يقدمه هذا الشئ الذي تجرأ علي اسم مصر وألصقه بالتهريج البائس الذي يقوم به وسمي نفسه زوراً"مسرح مصر"في بجاحة لا حد لها,فالفرق المسرحية الحقيقية لم تفكر أن تحتكر اسم مصر العظيم الهائل رغم ما قدمته من أعمال تفخر بها مصر وتذكرها بالحنين والتبجيل!!المهم نعود إلي ما يستحق الحديث عنه.
لماذا قتل حسن ورد رغم عشقه لها وغرامها به.عشق الأضداد ورد الحنون وحسن الغليظ,ورد المتفتحة وحسن منغلق الذهن ضيق الصدر؟
ورد تهوي الجمال كأي جميلة علي أرض مصر,وللفرنسيون ولع وخبرة بالجمال والفن,وعندما قرر نابليون تحويل خط مصر من الانحدار علي قضبان العثمانيين إلي التقدم علي قضبان الجمهورية الفرنسية,أقام بعض دور الترفيهومنها التيفولي علي حديقة الأزبكية,وهو مكان للموسيقي والرقص ولألعاب المراهنات ومقصقف للمشروبات,حرمه المصريون علي أنفسهم كنوع من المقاومة!!!تلك هي الأزمة التي ستؤدي إلي قتل ورد,فقد خرجت مع صديقتيها لهذا المكان السحري بالنسبة لامرأة في القرن الثامن عشر في ولاية-مصر ولاية!!!!!-عثمانية متخلفة لا تعرف من الدنيا إلا القليل,وتتفاقم الأحداث عند ركوبها مع زوجة أجد الفرنسيين العربة,فيراها زوجها ويشهم رأسها"بلا وعي",طريقة قتل حسن لورد تكشف عن نفسية حسن,فهو بلا وعي ولا ثقافة تجعلانه يقبل ما قبله أبوها الحاج منصور"صبري عبد المنعم"بتفهم,جسن لا يري في الفرنسيين إلا"كفرة"هكذاببساطة!!هذه الذهنية السطحية هي المتسيدة اليوم,موضوعات معقدة خطيرة تستغرق من الباحث فيها عمره,يحكم فيها ضيقو الأفق غائبو الوعي  بكلمة أو كلمتين بكل ثقة الجهل المتفشي,مريحاً ذهنه من التفكير لكنه يتعب نفسه حتي الموت!مثل حسن الذي قتل زوجته بغياب وعيه ضرباً علي الرأس.

الأحد، 22 أبريل 2018

قراءة في مسلسل نابليون والمحروسة(1)


بين  كآبة جنائزية تشي بزمن ولي وغادر الأرض؛ليدفن في باطنها حيث ينتمي,وترقب القادمين من الجانب الآخر للبحر ليطأوا أرضاً جديدة,تخيلوها من كتابات رحالة وباحثين كفولني الذي كان مفتاح من مفاتيح الاستشراق في زمنه الأول,يبدأ مسلسل نابليون والمحروسة بقيام خديجة "سوسن  بدر"بدفن أمها واقتراب سفن نابليون بونابارت لسواحل الأسكندرية.
من البداية تسيطر الأجواء الكئيبة القاتمة المنعكسة علي الصورة جاعلة الظلال الداكنة تشيع في جنباتها؛لتكون مرآة من الظل والضوء تعبر عن نفسية الشخصيات وصورة للأحداث.
يمكن إجمالها في أسرتين واحدة تعيش في المحروسة والثانية تقبع في صعيد مصر في الفشن,تربطهما علاقة مصاهرة بزواج محمود"أشرف مصيلحي"من زينب"سهيرالصايغ",سرعان ماينمحي أثر الأسرة الثانية  بين المطرقة المملوكية والسندان الفرنسي,وكما هي العادة علي مر التاريخ,يتصارع الأقوياء وليس هناك  ضحايا غير الأبرياء من حلموا برغيف وسقف وحضن يقيهم أنياب الزمان.
رقية"فرح يوسف" تفقد ابنيها باختطاف المماليك لهم,وأبويها حين دخول الفرنسيين,أمها التي تغلف قلة حيلتها بصرامة قاسية,لا تجد غير البحر مفر لتغرق فيه ممسكة بولديها وأبيها يصاب بطلقة ترديه.
من تلك الحلقة يبدأ تجلي أداء فرح يوسف الفن,في دور تراجيدي لامرأة نكتشف سعادتها الزوجية مع زوجها الراحل من حوار لها مع أمها,ثم موته ليتركها ضحية للفقر وغنيمة للطامعين,وولداها يتامي يجري عليهم من شظف العيش وشدة غلاظ القلوب ما يجري علي أمثالهم...إن المأساة التي تحياها ترجع بنا لأيام بعيدة وأماكن لا تعرفها رقية,تعود  بنا لماري أنطوانيت وسجن الباستيل و"شنق آخر ملك بأمعاء آخر رجل دين",وخوف إنجلترا ودول أوروبا من تصدير الثورة لبلادهم,وحروب التاج مع الجمهورية في صراع السيادة والسيطرة,بين قوتين عظمتين,حين قررت فرنسا إرسال جنرالها الأول نابليون العسكري الفذ الشبيه في تاريخنا بتحتمس الثالث من جهةالعبقرية العسكرية للهجوم علي إنجلترا وتتغير الخطة بمهاجمة إنجلترا بطريق غير مباشر بضرب مصالحها,فكانت مصر هي المختارة وفي مصر نزل نابليون خلفه  يعدو نيلسون...ثم  بدأت مأساة رقية!!
تتزين بلادنا بالعلماء والفنانين الفرنسيين الذين أضاءوا الماضي,ومثلوا نقطة مصيرية في التاريخ الحديث,حيث تفتحت أعين المصريين علي العالم الحر المتقدم  لأول مرة منذ قرون كبتتها فيها السلطنة العثمانية عملت فيها علي إلغاء الهوية  المصرية بصلف جهول أو بتعمد شرير,ورغم ذلك تظهر يد الحرب البغيضة في ضياع أسرة الشيخ مصطفي"سامح الصريطي"والد رقية بيد الجمهورية التي رفعت بالبنادق شعار الحرية والإخاء والمساواة!!قامت المؤلفة عزة شلبي  بإبراز الوجه المشرق  للحملة الذي شعر به المستنيرون من أهل مصر وقتها بينما لم ير فيها العوام سوي حملة صليبية جديدة!فالدين للأسف ليس إلا غمامة يُلبسها إياهم الأفاقون لينحدروا بهم للدرك الأسفل!
عند دخول جيش فرنسا للفشن تهرع الأم للقبض علي ابنتها بيد من حديد ومحاصرتها للقيام "بتحصينها"عن طريق إغلاق مكمن أنوثتها بالإبرة والخيط عبر عملية مؤلمة من الغرز بسن مدبب في أكثرالأماكن حساسية في الجسد,خوفاً من اغتصاب الجند لها,تسير رقية متألمة لا تقوي علي الحركة مع أبيها الضرير في صورة أنتيجون مصرية كتب عليها مواجهة أقدار لا يد فيها,وليس عليها سوي السير والتحمل بشجاعة لا يقوي عليها جسدها الواهن وروحها المكسورة.
في مشهد موت أبيها تنهار بجوار جثمانه إرهاقاً وألماً,يراها الفنان الفرنسي فيفيان دينون"جهاد سعد",فيعرف منها ما تعانيه من آلام وفي لقطة تزيد من عمق فهمنا للإنسان بصفة عامة,الذي يحاول أن يصير سيداً للعالم,تخبره بما فعلته أمها وتبدي له ألمها من البول المحبوس خلف خيوط أمها الغليظة.
هنا لابد من كلمة عن أداء فرح  يوسف الرصين في هذا العالم تحت قيادة المخرج شوقي الماجري:
يُخيل إلي أن أعظم ما يصل له الفنان أن يمحو شخصيته الحقيقية في  ذهن المشاهد,فمثلاً لم أر آل باتشينو في فيلم الأب الروحي بل رأيت مايكل كورليوني,ولم أعرف أوريسون ويلز في المواطن كين وإنما الملياردير  تشارلز فوستر كين,ولم يكن عمر الشريف في فيلم دكتور زيفاجو بل كان زيفاجو نفسه,وكذلك فرح يوسف كانت رقية تحتل مسامها وطبقة صوتها المتخاذل,طبيعة هذا الدور يغري عشرات الممثلات بالافتعال ومحاولة استدرار الدموع الكاذبة والغرق في حضيض تمثيل التمثيل بدلاً من التمثيل كفن سحري يجسد التعبير الإنساني كما هو...أو كما يجب أن يكون.


الثلاثاء، 3 أبريل 2018

لماذا لم أقل أني أحبه؟!


لماذا لم أقل أني أحبه؟!
طالما اغتظت ممن يكتبون عن الراحلين عقب وفاتهم ويملأون الدنيا صخباً,وكنت أقول"في حياتهم كانوا أحوج لهذه الكلمات الجميلة,لماذا ننتظر الموت مجئ الموت حتي نصرح بإعجابنا وحبنا؟!"حتي جاءت هذه الليلة الحزينة التي رحل فيها أحمد خالد توفيق,الواحة الجميلة التي كنت أستظل بها وسط صحراء القسوة والهراء,وتعلمت ضمن ما تعلمت في أيامي أن مرارة الموت تطفح منها مشاعرنا الصادقة,وطالما ظل الإنسان علي قيد الحياة تغرنا الدنيا أن هناك فرصة مؤجلة لكل شئ.
في البداية ظننت الأمر من ألاعيب إبريل ولعنت وسببت في سري كل كدباته التي مثل هذه حتي تأكد الخبر...أحمد خالد توفيق مات!!!!بكي قلبي قبل عيني وتجلي لي الموت وحشاً فظيعاً,وسقطت فجأة كل صغائر يومي الحقيرة التي شغلت بالي في طريقي للمنزل من العمل,وكل خططي تبخرت,ولم يعد في داخلي سوي نشيج مكتوم يصرخ بدون صوت"لماذا لم تقل أنك تحبه؟!"
انقطعت عن الكتابة في هذه المدونة لأسابيع انشغالاً بأسباب المعيشة,ومخزناً في ذهني مشاريع عدة لموضوعات كثيرة ولم أتخيل أن عودتي ستكون في نعي صاحبي الجميل-ليتني ماعدت- الذي لم أره ولم يعرفني,لم يعرف بوجود محمود قدري الساكن في مدينة دمنهور الذي قضي معه ساعات من أجمل ساعات عمره,حينما كنت ألجأ له طلباً للفائدة والمتعة,وكان صاحبي الجميل كريماَ...كريماَ لدرجة أنني كنت أستكثره علي نفسي وأتعجب من فرط جماله وحيويته,عشت معه ساعات مرضه الأخيرة كما حكي لي في مقالاته,وهنأته في سري بالسلامة"هاتروح وتسيبنا لمين يا عم أحمد؟!وهو فيه كام أحمد خالد توفيق في حياتنا,يللا بقي ارجع  زي زمان وكلمنا عن كل حاجة حلوة في الدنيا,كمل كلامك عن الأفلام الأجنبي والروايات الحلوة والفنانين والأدباء الجُمال اللي خلتني نعرفهم ونعيش معاهم...حمد الله عالسلامة يا أخي!...وحتي لو مارجعتش ربنا يخليك لولادك"
لماذا لم أقل أني أحبه؟!
قلبي بداخلي يرتعش...ياللموت!!!"واهتز قلبي كفقاعة وانفثأ"أهكذا كان يشعر أمل دنقل؟!لكني قلبي ينفطر حزناً عليه,لو انفثأ لاستراح لكنه معبأ بكافة المشاعر المتضاربة,صحيح الموت علينا حق,لكنه "علينا"وليس "لينا".
يااااه...يشاركني في هذا الألم آلاف ممن تربوا علي يدي هذا الرجل,آه لأول مرة في حياتي يقترب الموت مني لهذه الدرجة,فأشعر بالهلع علي كل من أحب...الحزن يعم الجمهورية  كلها في المدن والريف في السواحل والصعيد,يكاد تلفحني صوت زفرات الصدور المشتعلة حزناً وفقداً...أراه الآن في غرفة كل من تعلق ماثلاً أمامه في خياله بأشكال متعددة,فهو الصاحب لبعضهم والأب لبعضهم والمعلم لبعضهم وربما الحبيب لبعضهن,صور كثيرة عجزت عن تخيله بها في حياته لكنها بعد رحيله صارت حية أمامي!
يسألني من في المنزل"مالك"فيخرج صوتاً ضعيفاً غريباً أنكر صدوره مني"أحمد خالد توفيق...مات"وأتذكر أني ختمت الخامسة والعشرين كان أحمد خالد توفيق خلالها جزء من حياتي,حياتي التي أصبحت ماضياً غريباً هذه الليلة,كأني فقدت فيها جزءً من نفسي,نفسي التي تعذبها وتعذبني,فجأة نتصالح كصديقين نعزي بعضنا في موت أحمد خالد توفيق.
يا صاحبي الجميل الراحل,اعذرني أني لم أكتب عنك من قبل فأنا لا أتكلم؛لأني لا أجد من يسمعني,فقط أكتب حتي لا تسوء حالتي!لقد كنت تمثل لي شيئا عادياً لا غني عنه فمن فرط وضوحك وأهميتك لم أفطن إلي ذكرك.
يا صاحبي الذي لا يعرفني,كما كنت صاحب آلاف وآلاف لم تعرفهم لكنهم يحفظون وجهك ويرتاحون إلي صوتك,ها أنت راحل حيث كل من أحببناهم بدءً من جدنا إيمحوتب العبقري وانتهاء بهوكينج,عزائي أنك ستجالسهم هناك وتنظر لنا من بعيد وربما تطرأ علي ذهنك واحدة من عباراتك اللطيفة المحببة للجميع,فيها الطرافة واللطف والرقة كما تعودنا,آخذاً معك بهجتنا التي كنت أنت مصدرها.
ستجد كل أحبابك هناك يا صاحبي الجميل ولأننا أصدقاء قدامي فسلم لي عليهم,وأوصيك بنجيب محفوظ قبّله لي وشد علي يديه,واربت علي كتف نجيب سرور,واسأل داروين وأرسطو آينشتاين  كثيراً,ودردش مع ماركيز ويوسف إدريس ويوسف شاهين,وداعب توفيق الحكيم وأم كلثوم,وتمشي مع عبد الوهاب وسامي السلاموني,واسهر كثيراً مع يحيي الطاهر عبد الله  وأحمد زكي ومارلين  مونرو وفاتن حمامة وصبري موسي وخيري شلبي,وناقش إدوارد سعيد ورجاء النقاش ويحيي حقي واستفهم  من نيوتن ونابليون والاسكندر وأمل دنقل ومحمود درويش,وأنت تعرف بقية الأحباب الذين لا تنتهي أسمائهم حتي نلحق بكم,وبلادنا بعون الله آمنة مستقرة وجيرانها الحزاني المفجوعون في أمان وسلام,فقد رحلت يا صاحبي وعقارب الساعة تنزف حزناً ودماً وقلق,أعرف أنك كنت متألماً لما يحدث من مصائب,متمنياً الخيروالسلامة للجميع كما يليق بصاحب قلب كبير مثلك.
يا صاحبي وداعاً مؤقتاً,وحتي وصول أحبابك تمتع بما عندك من صحبة وبهجة,وكلما أردنا لقائك فعنوانك في قلوبنا,سنفتح أي صفحة ونجالسك...آه يا أحمد؟!أأصبحت ذكري يا صاحبي؟!