الخميس، 11 يناير 2018

الضفة الأخري


النزوع الصوفي في المطلق إبداع فني شديد الخصوصية,فالسيمفونية الخامسة لبيتهوفن تتلاقي مع أشعار الحلاج وصوت فيروز يتماهي مع صفاء الغزالي وتجليات أم كلثوم تتلاقي مع الطاقة العارمة لنجم الدين كبري,وهكذا في العموم...ربما يعبر عنها لكمة مايكل أنجلو لتمثاله المدهش للنبي موسي حينما انتهي من نحته وهو يتأوه "تكلم يا موسي"!!!
بالتأكيد تأوه اشتعالاً ورغبة في تحقيق ما فوق الواقع,هذا ما يرغب فيه المتصوفة,سعيهم المتواصل لرسم صورة فنية لأفكارهم قوامها الكلمة أو النغم أو اللون,يثبون فوق المعقول ليتركوا العاقل العادي في دوامة مزلزلة,متحيراً في فهم هذا الحس السريالي العجيب في أرواحهم المتألقة المحلقة في ملكوت مفارق للعالم الأرضي المحدود المقولب في قوالب وهمية,لا يتحرر منها إلا من كان له نزوع صوفي يسافر به في عوالم الخيال الرحبة!
"خضنا بحراً وقف الأنبياء علي ساحله"عبارة نسبت للبسطامي عند البعض وابن عربي عن البعض الآخر وأحالها البعض للسان ابن جميل,وهذه مشكلة وردت لأكثر من عبارة في تاريخ التصوف الذي هو جزء من التاريخ العربي المعتمد علي السمع والحفظ ثم لو قيض الله لأحدهم أن يدون,يُخلد في الذاكرة الإنسانية درر عظيمة خالدة,بالطبع مرور الزمان وتقلب القلوب يجعل الارتباك أمر بديهي لأي عمل بشري يضطلع بشأن التدوين,فيحصل الخلط والالتباس,فليس من سمع وسكن كمن جري ودوّن!
يُخيل إلي أن  هذه العبارة قالها البسطامي فهو أحب ذكر البحر كناية عن رحلته الصوفية لعل يتجلي له سر الكون الذي دأب الأفذاذ من الناس علي اكتناهه كلاً بطريقته"غصت في بحر المعارف حتي بلغت بحر محمد صلي الله عليه وسلم,فرأيت بيني وبينه ألف مقام,واقتربت من واحد فاحترقت","الناس بحر عميق والبعد منهم سفينة وقد نصحتك,فاحفظ لنفسك السكينة","كن بحراً لا تنتن","نعم القوم تكلموا من بحر صفاء الأحوال,وأنا أتكلم من بحرصفاء المنة,فتكلموا ممزوجاً,وأكلم صرفاً"
هذا العبارة يمكن تفسيرها بمنتهي البساطة من النظرة السطحية الأولي,فمن يكره التصوف لن يعدم أن ينسب لصاحب هذه العبارة كافة الشناعات التي يمكن أن تخرجه من الملّة,وربما استغفر الله بعد قولها,فها هو البسطامي يعلن أن وصل إلي ما عجزت عنه الأنبياء وخاض ما وقفوا أمامه عاجزين!
ومن يحب التصوف سيتنهد في ارتياح,فها هو البسطامي تحت رعاية أنبياء الله الذين سبقوه للضفة الأخري يخوض بحرهم الوسيع لعله يصل إلي ما وصلوا إليه من معارف ومكارم"آخر نهايات الصديقين,أول أحوال الأنبياء.
وهذه من ألاعيب اللغة العجيبة التي خلقت للصوفية أعداء لا حصر لهم وعشاق لا حصر لهم أيضاً.
المستوي الدلالي لهذه العبارة عندي هو حس إنساني شفيف جداً,يري ما لا يراه الآخرون ويسعي إلي ما رغبوا عنه,صحيح أنه خاض البحر ولكنه لم يصرح بالوصول التام للساحل,فهو إنسان في حالة صراع مع ما يجذبه للدنيا المادية وما يصبو إليه من حياة روحانية وسط دوامات البحر المخيف,إنني أتذكر رواية هيمنجواي"العجوز والبحر"حيث كان البحر كناية عن الواقع الذي يصارع فيه الإنسان هدفه المشاكس الخطير,معرض للأهوال والكوراث,لكنه كما قال الإنسان يمكن هزيمته لكن من المستحيل تدميره,نفس هذا البحر يخوضه البسطامي تحدياً لواقعنا العادي في سبيل ضفة حياتية جديدة,لم يكن جدير بها أي شخص آخر سوي الأنبياء,ضفة بكر نورانية تتلالأ وسط ظلمات البحر وبرودته وملوحته وقسوة رياحه,كل شخص من حقه أن يسعي لهذا البحر,بشرط أن يصفو ليراه ويعمل ليخوض.
تفسيرات كثيرة وردت علي لسان المتأولين بين مدافع ومهاجم,لكنني رأيتها مجردة من كل أمر,سوي أمنية لمفارقة ضفتنا الملوثة بشرور البشر الحاجبة لهم عن نور المطلق,وإشارة لهم أن هناك ضفة بعيدة تستحق المخاطرة والخوض وليكن ما يكون,فالسعي كان العظيم ولن يدفع فيها سوي كل عظيم!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق