الأربعاء، 18 أكتوبر 2017

شجون زيدانية

شجون زيدانية
هربت ذهنياً من هذا العالم حين سالت دماء الحضارة السورية صخراً ومنحوتات تبكي زمن مجيد,كانت فيه سوريا مشاركة في فعاليات العقل الإنساني منذ بدأ يزدهر ويلد ما نراه الآن عجائب,أثر ذلك فيّ علي المستوي الشخصي كثيراً قنعت من حياتي العملية بموقعي في هذه المتاهة الخطرة المسماة بالسوق والتجارة أجادل علي الجنيهات وأقف مهزوماً أمام التوسلات,رغم أني عشت حياتي كلها غير عابئ بالماديات لإيماني بأن مصيرها للفساد,وغير مهتم بالمال لا أسعي خلفه ولا انتظره,تأتي لي الفتاة تريد شراء جهازها فأري اشتياقها وإصرارها علي الكثير والغالي,فأترك العمل وأنظر متحسراً"اللي مفروض ندي له الاهتمام ده كله الحب والوفاء والإخلاص والتفاهم مش شوية سجاد ومفروشات معرضين زيهم زي أي حاجة في الدنيا إنهم يقدموا أو يتقطعوا أو يحصلهم أي حاجة"يتأثرن قليلاً ويؤمن علي كلامي ثم يعدن للاختيار وتعبئة الأكياس!
مع الوقت فقدت أي رغبة في معرفة أي شئ يدور حولي من أحداث بين الدم والهراء,أتخيل الأخبار اليومية راقصة تخرج علي المسرح فجأة فيقفز فريق من الناس يطبلون ويضربون الصاجات ويتشقلطون علي الأرض,تنتهي الفقرة وتدخل راقصة أخري(خبر آخر)فيعود المولد ينتصب من جديد فينسي الناس الراقصة(الخبر) القديمة...وهكذا!
ظلت أسئلة يوسف زيدان وحدها هي ما يشحن ذهني ويعذبه,منذ بدأت قبل سنوات ولي معها ذكرياتيوسف زيدان...وأنا,هي من تفتح لي نافذة علي الكون,كشخص لم يتلق تعليماً في كافة سنواته اللاتعليمية لم أتمكن من فتحها بنفسي,ففرحت من قلبي حين وجد يده تشير هنا وهناك للتاريخ للعلم للفلسفة للفن للدين للحب لكل ما يجعل الإنسان إنساناً,فأصبحت أهم شئ في يومي سؤال يطرحه خير لي من"بيعة"-ياللاسم البشع-أكسب فيها مبلغاً محترماً وسمعة تجارية لأنني رغم كل الضغوط في كار التجارة الزئبقي بداخلي نداء"النفس تبكي علي الدنيا وقد علمت أن السلامة فيها ترك ما فيها"لكن الدنيا لا تريد أن تتركني!يوسف زيدان نفسه حين كان يظهر في برامج ويتكلم عن الإسراء والمعراج أو صلاح الدين لم أكن أشاهدها خشية أن أجد صورة قتيل هنا أو تفجير هناك أو مصيبة هنا أو مولد منصوب هناك,وعموماً أمثال هذه القضايا ما خفي فيها كان أعظم!لكن النظرة السطحية المتغلغلة في العين المصرية لم تعد تري سوي ما تريد أن تراه,أو بالأحري ما يريد غيرها أن يجعلها تراه,لكني حين سمعت أنه سيتكلم عن الكتب أدرت التلفاز لأول مرة عن إذاعة البرنامج الثقافي وماسبيرو إف إم وقناة ماسبيرو زمان وجلست لعلي آخذ دفقة جديدة تحرك ما ركد بداخلي بفعل فاعل مجهول,المجتمع,الناس,الظروف,الحياة,الوجود أو لأكن شجاعاً وأقول أنا نفسي!
بعد الحلقة ظننت كشخص ساذج سئم من كثرة العباقرة حوله مما جعله يردد:"هو كله بقي مفتح وبيفهم؟!كلها بقت معلمين؟!أومال المغفلين والبهايم اللي ودونا في داهية راحوا فين؟"أن الكلام كله سيكون عن دور الكتاب والثقافة والتعليم وقد يظهر جروب علي الفيس بوك يشارك فيه المهتمون عن كل كتاب سيتكلم عنه,وربما ناقش علي صفحته الكتب,وتبدأ موجة جديدة من موجاته الكهربائية التي يصدمون بها أشباه الموتي لعلهم يعودون مجدداً للحياة,لكن ولأن كله أصبح معلم وفاهم ومفتح وأنا المغفل الأخير في هذا العالم,تحولت الحلقة لمولد منصوب وبعدت عن مسارها,أعتقدت إنه عن قصد وعمد,فلو لم يتم التعمية عما قاله وأثر في الناس ليفتحوا الكتب وينبشوا في الأفكار فسيتوقف سوق الكلام الخايب والتافه والمستفز,وسيصبح كل شخص سيد رأيه الذي تعب في تكوينه بحثاً وقراءة وفهماً,وبدل فتح التليفزيون فتنفتح حنفية الإعلانات سيُفتح الكتاب وتنهمر حنفية الأفكار,لكن المولد نُصب وكان صاحبه هذه المرة "أحمد عرابي".
طالما هزني عرابي في طفولتي وخاصة صورته فوق جواده بشاربه ووجهه المصري العادي وكلامه الحامي كفلاح يقول للغولة عينك حمرا,يقف في مواجهة الخديوي الذي يبدو كأنه يستعطفه,بعدها لا أذكر أين قرأت أن هذه الواقعة لم يحكها سوي عرابي!ثم ربطت هذا بكلام عبد الله إمام عن حالة الفلاح المصري قبل جمال عبد الناصر,واهتزت صورة عرابي ,لكن بقي المثال وكلام يوسف زيدان أيضاً لم يمح هذا المثال...الحلم!
حسناً...عرابي فوضوي براجماتي أو بطل قومي موضوع مهم لكن الأهم منه أن نقرأ عنه لنكون رأياً خاصاً بالسلب والإيجاب,وهذا كان مضمون كلام زيدان فلماذا ترك المفتحين العباقرة المضمون وتمسكوا بالقشرة الهشة,ألم يقرأو مثلاً يوماً لمستشرق يحلل الإسلام والنبي والقرآن والمجتمع القرشي تحليل نقدي يهاجم ويعلن عن نظريات تمس صميم الصورة المثالية الغير معترفة بأي أسباب أرضية,ليدركوا أن اتفاق كل الناس علي أمر واحد ضرب من الجنون والخبل حتي ولو كان هذا الأمر مقدس وتابو محرم الاقتراب منه عندهم!
يؤكد زيدان إننا مجتمع يقرأ وأرتعب,فلو كان هذا حال مجتمع يقرأ فما هو حال المجتمع الذي يقرأ,يهاجم عبد الناصر وأنا أُعجب به,يطرح نظرة مختلفة عن عرابي فأتقبلها,لعلمي أن لكل شخص في هذا الحياة عالمه الخاص هو حر فيه له الحق في تشكيله كما يشاء كما يقول المثل"كل واحد في نفسه سلطان"ليس لأحد الحق في الحجر علي ما يقول وخاصة حين يصدر من رجل ندر نفسه للفكر والثقافة فأنتج ورأي ثمار ما زرعه طوال عمره كتباً ومحبين وقراء,ليقول ونسمع نحن ونناقش...لكن ما حدث مفزع تركوا ابن سينا وابن النفيس وهايزنبرج وبرتراند رسل وويل ديورانت وأبو نواس وصلاح عبد الصبور وكل الأفكار المبهجة التي عرضها وخرج فريق من الناس الذين يبغون التشويش علي الناس ويرفضوا وصف عرابي بالفأر ومعارضة بناء المساجد والتشكيك في القرآن؟!من وصف عرابي بالفأر ومن شكك في القرآن ومن عارض بناء المساجد؟!ماذا حدث؟! من قال؟! أين نعيش؟!هل هذا حقيقي؟!من أنتم؟!يبدو أنني سأموت ولن أعرف كالقذافي من أنتم؟!
في المرات القليلة التي قابلت فيها يوسف زيدان لم أستطع مجرد الكلام,كنت أراه هضبة كبيرة من الأوراق والكتب والمجلدات,كنت أشعر بالهيبة الشديدة ولم يتمكن هو ببساطته وتوجيهه الحديث لي ذات مساء سكندري علي الشاطئ واستفساره عما أقرأ أو أكتب وتشجيعه المتواصل أن يذوب هذه الهيبة بل زادها بجمعه بين هذا وذاك,وشعرت بالغيظ من عمر أديب كلما ضحك محاولاً تخفيف وقع الكلام.
وأنا من موقع البسيط في خضم السيرك المجتمعي البائس وبشجن يثيره فيّ كلما سمعت ندواته علي اليوتيوب وبطاقة النور التي يفتحها لي بأسئلته التي أدين لها,أناديه أن يعتلي جواد المعرفة هو بذاته ويواجه سلطة جديدة مخيفة دمرت العقول,وأن يستمر ويعمل ويحرك البركة الآسنة المتعفنة,لعله في يوم ينبت علي ضفافها زهرة تصيح في وجه المسوخ:لأنه مهد لي الطريق أنا نبتت هاهنا!

أشعر أنني فقدت القدرة علي أكثر من هذا,فأنا حقاً مرتبك وفزع ومؤرق مما حدث...لكن بحلقات جديدة عن الكتب وأسئلة جديدة وندوات جديدة,ربما يتكشف لي ما يدفعني علي الاستمرار...إنه الصراع الأبدي بين المهرج الساحر القديم الذي يقنع الجمهور بأنه علي حق وبأنه هو المتحكم الصادق المتمكن في أمور الناس,وبين العالم الموضوعي الذي يأخذ بالأسباب ويبحث ويدفع الناس علي التفكير الذي من شأنه أن يهتز عرش الساحر الكذاب الذي كان هو أول متسلط علي الناس بألاعيبه وضجته الفارغة...وما زال الصراع قائماً عندنا كأننا نعيش قبل آلاف الأعوام!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق