الخميس، 3 أغسطس 2017

العلاج علي فراش فرويد

كانت طريقة التداعي الحر التي تبناها فرويد بمثابة إعادة الحياة للذكريات والمشاعر والرغبات المكبوتة في عقل الإنسان,أشياء انطمرت بفعل الزمن القادر علي تبديد وتغيير الجميل والقبيح في حياة الفرد,وبعد تجارب عدة تبلورت علي يده في شكلها الأخير المعروف:يستلقي المأزوم نفسياً علي الأريكة في وضع الاستعداد للنوم,حيث يكون العقل متحرراً من الكوابح البغيضة في عالم اليقظة,ويستسلم للحكي والكلام,ومن خلال الكلام يتجلي للمعالج النفسي ما يعاني منه صاحب النفس القلقة.
هذه هي الطريقة التي جعلتنا نكتشف عالم "نورا كامل",الفتاة الوحيدة المقيدة في مجتمع فسد منذ زمن,وكلما شكي أحدهم من عفونة الجو حوله حولوه لهدف لإطلاق طاقة العنف والوقاحة التي أصبحت جزء من الحياة المصرية اليومية.
تحكي نورا علي بروح"شهرزادية"للمحلل النفسي فرويد كل ليلة قبل النوم جزءً من معاناتها مع نفسها والعالم المحيط بها,لجأت للتفسير العقلي المنظم وهربت للفضفضة الحرة مع أحد أهم علماء القرن الماضي,في إشارة إلي أن المنجي الوحيد لأزمات الإنسان هو العلم والمنهج العلمي القائم علي أسس ودلائل علمية,ففرويد كما أخبرها-في خيالها-ليس حاكماً عليها أو ناقداً أخلاقياً عليها أن تخجل منه,بل هو ممثل لروح المنهجية التي تسعي للفهم والمعرفة,وهما أصعب بمراحل من الحكم الفوري.
تسرد نورا لفرويد وهي علي فراشها الذي نسبته له ماضيها وذكرياتها,بصورة صادقة.الصدق هو سبب الإعجاب الأول بهذه الرواية صدق المشاعر وصدق التعبيرات,تحكي له عن وجهها الآخر صديقتها مريم,عشقها لأحضان رجل بعيد عنها يكتفي منها بمكالمات جنسية تؤجج مشاعرها وتترك شهوتها ملتهبة,حتي تطفئها بصورة غير اعتيادية مع أول رجل يتلقاها في أحضانه,وبالصدق مع الذات وعدم إخفاء تفاصيل ألمها تجد الحب الحقيقي الذي يتفهم ويتقبل ويسامح,وهما الفضيلتان المنسيتان في المجتمع المصري,فالكل ينكر ويحاكم ويقتل ,الكل خائف لا يثق في نفسه يتهرب من مسئولية الشراكة وثمن الصدق,رغم أن مريم مارست الجنس في اتجاه مختلف لا يؤدي إلي فقد العذرية,إلا أنها تشعر أنها فقدت عذريتها يوم أن تاهت في الطريق وأصبحت تسعي في لهفة لأول سراب يقابلها في صحراء الحياة,فقدت عذريتها الداخلية التي تجعل المرأة تهب نفسها للحبيب ليصيرا شخصاً واحداً مكتملاً في لحظات النشوة حيث يجربان لذة الإنسان الأولي ومتعته التي يصبو إليها,لكن مريم تهب نفسها في ظروف شاذة بلا روح ولا عاطفة غير إطفاء شهوة عند الرجل وتعويض حرمان عند الأنثي,ممارسة آلية تفقد العذرية من اللحظة الأولي,علي عكس الهبة العاطفية بتجدد العذرية مع كل مرة كأنها أول مرة.
أما نورا فهي مزيج من عُقد المجتمع المصري التي تتوالد بصورة مخيفة,حيث تصبح مثار اشتباه لمجرد كونها أنثي,فيفرض عليها الحجاب الظاهرة الاجتماعية المستحدثة في المجتمع,لإخفاء أزمته الكبري المتمثلة في المرأة والجنس,وكلما أنكر أو حاول الإخفاء تستفحل الأزمة,وتتفجر لو أظهرت الأنثي ساقاً أو أبرزت نهداً أو ردفاً,تجد كل من يحاول وأدها علي الطريقة الحديثة بالحجب والحجر,يتولّه ويشتعل رغبة,فتزيد حالات التحرش والاغتصاب بصورة لم يعرفها المجتمع من قبل,ولو ناقش الأدب ظاهرة الجنس بثوب إيروتيكي فني,يصبح كمن يضغط للمريض علي مكمن ألمه فيصرخ منادياً بالمنع والكف متفادياً الكشف عن نقطة ضعفه,وما يحسب لنهلة كرم هي مناقشتها للجنس بأسلوب جرئ,سبقته لها كتب التراث بصورة أكثر جرأة وتحرراً...طبعاً لم تكن توصف هذه الأعمال وقتها بالجرأة والتحرر,فقد كان للناس شغلاً أهم من مكافحة رغبة أساسية في حياة الإنسان.

تضغط الحياة اليومية علي نورا فتهجر حلمها في الكتابة,وترتدي قناع يرضي الأم والأب وبلدها والمجتمع والناس,مجرد فتاة عادية تعمل لكسب الرزق بلا روح أو رغبة أو تفكير عملها هو تقسيم الناس لفئات حسب مستواهم الاجتماعي والمادي في إحدي شركات التسويق,لكنها هي نفسها لا تدري كطبقة وسطي مجهولة الملامح -نسأل الله لها الرحمة والسلوان-لأي فئة تنتمي كما لا تدري أهي أنثي كما يخبرها جسدها أم طفلة كما يصمم أهلها,مسلوبة الهوية والإرادة تسير وسط زحام الحياة,خطوتها التالية انتظار العريس ثم إنجاب الأطفال وزيادة عدد أشقياء الإنسانية علي حسب شطارتها,حتي تقابل من يعيد لها حلمها كما أعاد فرويد لها ذكرياتها,الشاب الوسيم المثقف المتفتح زياد,لكن المفارقة أنه عقيم لا ينجب,بصورة تدعو للتشاؤم من زيادة أعداد أمثاله ممن يرون الحياة بمنظار مختلف,بدلاً من منظار القطيع الذي أضلنا إلي السبيل المعوج...علاقة نورا بزياد ربما يفهمها تلميذ فرويد المنشق عنه كارل يونج,فهو المؤيد لعلم نفس التخاطر والظواهر العجيبة في علم النفس التي نشأت بين الاثنين,في إشارات تدل علي أن العالم أكثر تعقيداً وغموضاً من أن يوضع كله في كفة التحليل العقلي,تنتهي الرواية بزياد مرفوضاً من أهل نورا لعقمه وبنورا وقد تجرأت علي نشر روايتها باسمها الحقيقي,ناظرة للسماء لتعطي إشارة لزياد علي سلوكها طريق آخر غير طريق الضعف الذي أضاعه من يدها بعد أن وجدت نفسها,جاءت النهاية سريعة ومفاجئة وكان الأجمل بعض التفاصيل قبل البتر بهذه الطريقة المتسرعة...نهلة كرم سردت أحلام وانهيارات وطريقة خلاص جيل مفقود من السجلات,جرت كل حياته في سرعة عجيبة حتي أصبح الزمان فجأة خلفه بعد أن كان أمامه يحلم به,جيل دُفع به في صخب الحياة وهو لا يحمل سلاح من تعليم أو تربية أو ثقافة وهو الآن مطالب بإصلاح سفينة الوطن,وهي مهمة لن تتحقق إلا بأن يواجه عيوبه الخطيرة ومشاعره المكبوتة المخيفة بفعل تدمير ممنهج منذ عقود لتصير هذه اللحظة الحرجة بكل إحراجها وقذراتها وفشلها الفظيع واقعاً مراً...وليس له تحلية سوي العلم والعمل والفن كمعرض مريم والأدب كروايتي نورا المفترضة ونهلة الواقعية,التي كسرت ما يسمي بالتابوهات,ومن قرر هذه التابوهات في العقول يسلب من الإنسان أهم مشاعره ويحولها لأعماق ذاته فتزيد ظلاماً وإرباكاً ولا تنطلق إلا علي فراش فرويد...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق