الأحد، 2 يوليو 2017

"كلها أنت"!

أزمة السينما في مصر هي ذاتها أزمة الأغنية:افتقاد النص الفني الصادق,المعبر عن حالة إنسانية تلمس النفس الإنسانية,تشير لنقصها كما تلامس سموها,أشعر أني محاصر بين البلطجية وأرباب السواق وأصحاب الكيف,الذين سيطروا علي الساحة وأصبح صوت الفنان الحقيقي متواري في الظل,يكدح ويعمل متواري عن عين جمهور أصمّه الصخب وأعماه الصياح والأداء المبتذل رافع راية الهراء,وسط محيط تضربه أمواج داكنة من بحر آسن ملوث عازم علي إغراق الحياة الفنية بكل ما يجعلنا محط سخرية من القريب والغريب.
لكننا رغم كل السوء الذي نسبح فيه,مازالت هناك علامات تطمئننا علي حال الثقافة المصرية,لا ننكر أنها نادرة وخافتة وتأتي علي فترات متباعدة,لكنها علي كل حال موجودة,مازالت الجينات الفنية تتوارث من الأجداد الذين غنوا وكتبوا أغانيهم علي الجدران والبرديات,لتصيح "هذه هي مصر التي لا تعرفونها...مصر الحقيقية,لا مصر التي تاهت في المهرجانات وغناء المساطيل المنحط"...من هذه العلامات أغنية "أحلي نوجا".
يكون جوني وزميله أنطونيوس في ذروة مزاجهما الفني الرائق حين يقتربان من عالم نجيب سرور,كما حدث في أبناء نجيب سرور يجمعون رماد حلمهحين يعيدان الكرة يعالجان مرثية سرور لآمال طفل محروم مما يجد الأطفال في مثل سنه,برؤية جديدة تضيف للنص وتبرزه,فالمتكلم في القصيدة الأصلية نجيب نفسه ولا يظهر الطفل/الطفلة إلا منادياً"نوجا...نوجا أحلي نوجا"في الأغنية وبأداء مؤثر تولد أمامنا شخصيته الطفولية الساذجة البريئة التي أسقطت من القصيدة,هذا الطفل هو من يعطف في الواقع علي الرجل الكبير,فهو يندهش لحزنه وتكشيرته التي يمكن إبدالهما بالسعادة والفرحة لو اشتري منه النوجا!"ليه يا عمو تكون مكشروالفرح موجود معايا ؟!أنت بس يا عمو أشر قول لحزنك لأ كفاية,قولي نوجا هاتلي نوجا تلقي للأحزان نهاية"لو كان العالم مملكة للأطفال بتصوراتهم الساذجة الحلوة,ما عرف الدم والعنف والتدمير الذي يسيل من قلب الكرة الأرضية منذ نشأتها,لكن الزمن يفعل فعله وتدور الأرض وتنمو الأطفال ليصير منهم سيوفاً تنغرس في أمهم التي حملتهم علي ظهرها!
يتكلم أنطونيس بلسان الطفل البرئ,بينما نجيب الشاعر الذي جرب معني الأبوة,يجزع ويخاف حين يداهمه الطفل,يضطرب ويتمزق:"
أتبيع الحلوى يا ولدي
من غيرك كان ليأكلها
لولا مهزلة فى بلدى .. ؟!
" نوجا .. نوجا .. أحلى نوجا .. "
فى نصـف الليـل تغنيهـا
عريانـا فى برد الليـل
أنا مثلك لم أعرف يوما أفراح الطفل
و عرفت الأحزان المرة
و رضعت العلقم من مهـدي
لم أعرف ما طعم الحلوى ..
" نوجا .. نوجا .. أحلى نوجا .. "
أحلى نوجا ؟!
كلها يا ولدى .. ملعون من يأكلهـا ..
غـيرك أنت ..
و لتقطع كف تخطفهـا مثل الحـدأة ..
يا كتـكوتى .. من ثغرك أنت ..
يا مثـل الورد البري
يا أطهر من أى نبى
يا أحلى من أحلى نوجا
يا كبدى .. أتبيع النوجا ؟
" نوجا .. نوجا .. أحلى نوجا ..
ثم يفكر في نفسه هو"ابن الشقاء ربيب الزريبة والمصطبة"ما كان يمنع أن يكون هو الذي ينادي في الشوارع"نوجا...نوجا...أحلي نوجا"من أجل سد رمقه:
ما كان بعيداً أن أصبح مثلك أنت
فأنادي"نوجا يا نوجا"
ما يمنع أن يصبح ولدي يوماً أنت"
ثم يوجه رسالته للطفل ليلقيها في وجه العالم الغافل:
قلها للقرن العشرين!...فليبنوا من فوق الموتي أهرام المال
وليلقوا للفقر الضاري بالأطفال
ليبيعوا للناس النوجا في نصف الليل
"نوجا...نوجا...أحلي نوجا"
الحوارية في الإغنية بين العم المشفق(جوني) والطفل/الطفلة المحروم(يوسف,ريم)حوار بين جيل يلوم نفسه علي ما جنت يداه ويراه الآن حياً متجسداً في أطفال تبني بها مستقبل الأمم,بينما هنا يسرحون في الشوارع المكدسة المزدحمة بعفاريت السكك, بحلوي يجري ريقهم عليها رغبة في لذة طفولية عادية لكنهم محرومون من تذوقها"ولتقطع كفاً تخطفها مثل الحدأة من ثغرك أنت",ومع ذلك قلوبهم مليئة بالطهارة والمحبة,وأصواتهم تنضح بالبراءة والخير.
أشعار نجيب كصفعات من يد محبة,لا تبث الوجع الجسدي بقدر ما تثير دموع الحزن والتطهير من قلوب جعلتها يده تشعر بغيرها.

كلما سافرت بقطار الدرجة الثالثة ورأيت الأطفال يتراكضون بالعسلية والبسبوسة والعلكة معرضون للسقوط والموت,يتمثل لي صوت نجيب سرور الذي أعشق سماعه ممثلاً في مسرحيات إذاعة البرنامج الثقافي العظيمة,يلطم قلبي و يدير رأسي بقوة نحو هؤلاء الأطفال ويتنهد من أعماقه المتعبة العامرة بالفن والثقافة في عصر السفاهة"أتبيع الحلوي يا ولدي؟!من كان غيرك ليأكلها لولا مهزلة في بلدي"وتهمس شفتاي"كلها أنت"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق