الثلاثاء، 28 مارس 2017

جلال!!!

يا قلبي اشتعل لتغدو لهيباً يحترق كي تفهم جلال الدين الرومي,يا روحي اصعدي نحو النجوم لتري مولانا جالساً فوق السحاب يكتب مثنوي آخر لن نقرؤه أبداً,وهو يبكي علي حال أهل الأرض,وهو يري الدم والظلم والقهر تتأجج بهم الحياة,يا عيني اشهدي أن لك البصر لهيئة الصور أما المعاني فمضمرة لن تصلي إليها بغير البصيرة,يا لساني اشهد بعجزك حين تتكلم عن جلال...جلال ذو الروح الكونية,جلال الذي أجلّه العالم بينما العرب لو سمعوا عنه سيستفسرون من هو؟هم لا يستحقون أمثال جلال,يستحقون ما أنبتوا من وجوه كريهة وعقول عفنة وأيادي تقتل وتبتر وتحرق وتغتصب...دعوني أجلس عند قدميه أتعلم منه وأهفو نحو رؤاه الكونية,وروحه العالمية,وقلبه الإنساني,ومعاني شعره الملهمة بوحي أثيري لا يلُقاه إلا ذو حظ عظيم.
تركيا وإيران وأفغانستان يتنازعون في اليونسكو حول تراث جلال الدين الرومي,لأيهم ينتمي,مادونا تلقي أشعاره,مؤلف فيلم"المصارع"يسعي لعمل فيلم هوليوودي عن سيرة حياته,الأمريكيون يقرأونه بشغف حتي أصبح الشاعر الأول هناك,تأثيره في الشعراء من مختلف الجنسيات واضح وجلي,وأبرزهم محمد إقبال الهندي,إليف شافاق تكتب عن حياته"قواعد العشق الأربعون" وكيف مست امرأة معاصرة شعرت بنبض قلبه,كبار المستشرقين يدرسونه بدأب وبإعجاب شديد,حين مات مشي في جنازته المسلمون والمسيحيون واليهود,كلهم يبكي قلب إنساني نبض بحب الإنسان وسعي نحو السماء وطهر الوجود...كل من يقرأ جلال يتعلق به,ويقدره حق قدره.
وفي حياته كان خطابه عالمياً لإخوته في البشرية,فحفظوه وتأثروا به,معلناً مراراً في كتاباته أن ولاؤه للحب والحقيقة,ملقياً ثوب التصنيفات والتقسيمات والأسماء والتحيزات,مولياً وجهه نحو الجوهر المتجرد الخالد الباقي,فتعلقت به القلوب وهفت له الأروح بعد أكثر من ثمانية قرون علي موته الجسدي,ليبعث من جديد حادياً لأرواح من هجروا التقسيمات الوهمية السابحين نحو الوحدة الكونية,حيث الإنسان كما هو,ليس كما تصبغه بيئته.
لعل كتابة مقدمة المثنوي بالعربية رغم أن الغالب الأعم علي نصه الفارسية,إشارة من جلال المتنازع عليه بين الأمم,أنه ليس نتاج ثقافة واحدة غزت عقله وسيطرت علي تفكيره وبلورته كجزء منها مبتور عن بقية بني الإنسان,وأن اللغات ما هي إلا وسيلة لإيصال المعني أكثر مما هي حواجز وموانع للتفاهم بين البشر.هذه هي روح جلال كما وصلتنا من كتبه وسيرة حياته,روح كونية سمت فتنسمت عبير الوجود كله,لم يكن أعمي كالعميان في القصة الرمزية التي استخدمها في المثنوي,ليس هو من يمسك أذن الفيل أو قدمه ويعتبرها هي نفسها الفيل!
ليقول رسالتي للعربي والفارسي والهندي والصيني والروسي والفرنسي.....,....,...,,سيفهمها هذا وسيفهمها ذاك,لأن كلهم يحملون قلباً واحداً وروحاً واحدة,ليقول المعاني الإنسانية واحدة,ليقول كونوا بشراً وأزيلوا الحواجز المصطنعة بينكم,ليقول الألسنة أصوات ظاهرة والمعاني مفاهيم باطنة,ليرسل إشارة حب للعالم...العالم الذي ما زال يبجله لأنه فكر فيه وتواصلت روحه مع روحه,فاندمج في روح كل من اطلع عليه,وربما هذا ما يتردد صداه في قواعد العشق الأربعون,الذي تختلف فيه الثقافات والأجناس والأديان لكن الأبطال بالمؤلفة بالقراء يجتمعون علي حب جلال ويفهمونه ويعيشون رحلته ويشعرون أن وجدانهم يتشارك مع وجدانه...جلال الذي يرتعد الكلام عنه عارياً من أي جلال!


الاثنين، 20 مارس 2017

سبعة أحرف



تحديد البعد البشري في تاريخ العقائد عملية حساسة للكثيرين,ممن صبغوا كل شئ يمت للدين بصبغة قدسية,ويحيلون كل الأمور للسماوي اللاهوتي,دون أدني اعتبار للأرضي المعاش,مما يجعل المنطق وصيرورة التاريخ وعلم الاجتماع والسياسية وكل ما هو إنساني في الظل,لا لزوم لها مع إنها هي المحرك الأساسي للتطور البشري في الأديان كافية,والمسلمين اليوم في حاجة لرؤية تاريخهم بمنظار جديد,ليعرفوا ما ورثوه من تركة ثقيلة من جداً محملة بظروف وعادات زمن ولي ولا يمكن عودته,ورغم ذلك يطبقونها,بل يتقربون بها لله مع أنها كلها اجتهادات بشرية جانبها الصواب أحياناً وأحياناً حالفها.
المتأمل لتاريخ الأديان الإبراهيمية ,يجد أن تأسيسها الفعلي الامبراطوري جاء بعد زمن طويل من وفاة حامل الرسالة,حينها يبدأ الاهتمام بالنصوص المكتوبة كأداة من أدوات الحكم,ولم يكن الإسلام بعد وفاة النبي الكريم خارج هذه الحالة المدهشة,فبعد وفاة النبي واختياره جوار ربه تاركاً الدنيا,بعد أن أدي رسالته مبشراً ونذيراً,وفي بداية تكوين الديانة التي ستنتشر العالم,ظهرت الحاجة لجمع القرآن.
كل ما وصلنا عن التاريخ الإسلامي المبكر قائم علي الروايات,من فلان لفلان,فهمنا يعتمد علي الملاحظة والتحليل والمقارنة,وكل من ناقد أو باحث في التاريخ الإسلامي لا يعتمد علي الخيال ولا يتعمد الهجوم,فنحن أمامنا نصوص في نستقي منها رؤيتنا عن التاريخ عموماً,لم يشهد أهل عصر ما أحداث عصر سبقه,يعتمدون علي الروايات والشهود,حتي في عصر التكنولوجيا والانترنت والتوثيق البصري اللحظي خلال التجربة العربية المريرة القاسية في السنوات الماضية,كانت الأحداث تهد أركان المجتمعات وتزلزل الشعوب,وفي نفس اللحظة واليوم نجد لكل جماعة تاريخها الخاص ورؤيتها التي تنفرد بها,وهذا طبيعي ومفهوم لكن ما لايسمح به هو الكتم والتناسي,وبالنسبة للتاريخ الإسلامي هنا نحاول فهم تاريخ التاريخ,المبهم لحد كبير والغير قاطع أبداً,لكن مهما كانت الأمور معقدة والأحداث تبدو موضوعة وبعيدة عن المنطق,يتجلي للمؤمنين علي الدوام ما يريح قلوبهم ويثبت أقدامهم بإلهام داخلي صادر عن عقيدة؛لذلك لا يجدون ضرراً من النقاش والمشاركة فيه,أما من يحتكرون الدين ومن ثم يغدو تجارة رابحة فهم من يحجرون العقول,ويعرقلون حركة العقل في رحلة بحثه عن الحقيقة.

القرآن هو المعبر الأول عن الدين الإسلامي,وركنه الأول الذي قامت عليه فكرة النبوة المحمدية,فلم يكن النبي في بداية دعوته غير رجل اختاره الله ليلقي علي "لسانه" العربي رسالته للناس أجمعين, القرآن أساساً شفاهي ينتقل المعني من الله بصياغة عربية من النبي وهو الرأي الذي يقول به السيوطي وابن سينا,هنا نحن أمام كلام مسموع يتلي علي القلوب"لينذر من كان حياً ويحق القول علي الكافرين",كان هذا هو مفهوم القرآن طيلة حياة النبي,حتي ولاية أبي بكر وظهور بشائر صورة جديدة للقرآن علي شكل المصحف.
عمر بن الخطاب هو المؤسس الأول للإمبراطورية الإسلامية,فهو رجل دولة من الطراز الأول وصفاته مشهورة لكل مسلم,تظهره لنا الروايات في خلافة أبي بكر بأنه كان يلعب دوراً كالوزير أو المستشار,ومن ضمن الروايات اقتراحه علي أبي بكر جمع القرآن بعد معركة اليمامة ووفاة الكثير من حفظة القرآن,أغلب الظن أن هذا السبب حجة تاريخية لضرورة وجود مبرر للإقدام علي أمر خطير كهذا كان له أكبر الأثر في حياة الأمة,حيث ستصبح هذه المهمة لجمع المصحف هي التي نالت الرعاية الرسمية من الحاكم,وغطت علي جهود أخري لابن مسعود أبي ابن أبي كعب والمقداد ويقال أن الإمام علي أيضاً من ضمن من عملوا علي تدوين القرآن مكتوباً.
تعددت الروايات لكنها اتفقت علي أن عمر بن الخطاب هو صاحب الفضل الأول في الحفاظ علي القرآن الكريم بجمعه,ثم توريثه بعد ذلك لحفصة ليصبح"مصحف حفصة"هو النسخة الرسمية التي سيعتمد عليها عثمان فيما بعد,فلو كان عمر هو جامع القرآن الرسمي,فعثمان هو موحد المصاحف في التاريخ الإسلامي.
هذه المصاحف تعيدنا للحديث المحير"نزل القرآن علي سبعة أحرف"...الذي توقف أمامه المفسرون للشرح والتحليل,وبعضهم أعلن عدم توصله لمعناه,هل المقصود بالحرف هنا حرف الكتابة  مع ثبوت المعني الإلهي,مع الأخذ بالاعتبار أن الأحرف ليست القراءات التي جمعها ابن مجاهد,وتم لوي معني الحديث لتستبدل "حرف"بـ"قراءة",لكن معناه ينجلي حين نورد نصه كاملاً:"أنزل القرآن على سبعة أحرف إن قلت : غفورا رحيما أو قلت : عزيزا حكيما فالله كذلك ما لم تختم آية رحمة بآية عذاب أو آية عذاب بآية رحمة"وشرح ابن مسعود" إنما هو كقول أحدكم أقل وهلم وتعال",ويمكن القول أن هذه القراءات السبعة تعتبر واحدة من الحروف السبعة.يتوازي هذا التفسير مع الطريقة التي اتبعها ابن مسعود في مصحفه ,فقد كان يقرئ رجلاً"إن شجرة الزقوم طعام الأثيم"فكان الرجل عاجزاً عن نطق الأثيم ويبدو أنه كان لا يتقن اللسان العربي,فظل يقول"اليتيم","أ تستطيع أن تقول طعام الفاجر؟"سأله ابن مسعود,فقال الرجل"نعم"قال"فافعل", ابن مسعود لا يبدل في كتاب الله بل ربما سمع اللفظتين من رسول الله طبقاً لنظرية السبعة أحرف ومراجعة جبريل له بهذه الأحرف السبعة.
لكن الأمور هكذا بالنسبة للحكم والسياسة لا يمكن أن تستقيم,فكثرة الخلاف بين الناس في أمر كهذا وخاصة في شبه الجزيرة العربية لا يمكن ألا ينبه عثمان لخطر تعدد المصاحف والقراءات,وكما تخبرنا الروايات أن عمر حذر أبي بكر  من ضياع القرآن فجمعه ,نجد فيها أن حذيفة بن اليمان الذي أوعز لعثمان بتوحيده علي حرف واحد,فشُكلت لجنة بها ثلاثة قرشيين هم عبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث والرابع زيد بن ثابت خارج الارستقراطية القرشية ,فكانت من تعليمات عثمان لهم"إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت شئ من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم"هنا نجد أن الاختلاف كان أمراً واقعاً بين المسلمين حتي أن عثمان يبنه رجال المهمة الخطيرة ويؤكد لهم أن القرآن نزل بلسان قريش...قريش...التناحر القبلي هو المحرك الأساسي في الصراعات والخلافات في التاريخ الإسلامي,وهو تناحر أسود لم يتورع عن قتل أبناء النبي وسبي بناته بعد وفاته بسنوات,ولم يتردد في الهجوم علي الكعبة واستباحة بيت الله الحرام وترويع أهله,وما زال المسلمون لليوم يدفعون ثمن هذه العصبية التي شكلت نقطة تحول خطير في التاريخ الإسلامي ربما بدأ متوارياً منذ اجتماع السقيفة,ثم أعلن عن نفسه في فجاجة بعد موت عثمان بعد سلسلة أحداث مخزية كشفت وجه التعصب المقيت.
يبرز دور زيد بن ثابت في مرحلتي الجمع القرآن وتوحيده,فقد كان زيد واحداً من حذاق اللغات في المجتمع الإسلامي,أمره الرسول بتعلم العبرية فحذقها في نصف شهر ثم تعلم السريانية في17يوماً!وكان عبد الله بن عباس حبر الأمة يوقره كثيراً,فيأخذ مرة عنان فرسه وهو يهم بالركوب تكريماً له, فيطلب منه التنحي,فيرد ابن عباس"لا,فهكذا نصنع بعلمائنا",وحين مات نعاه أبو هريرة بقوله"مات حبر الأمة!ولعل الله يجعل في ابن عباس منه خلفاً",لكننا نعجب من تجاهل عبد الله بن مسعود علي قدر علمه بالقرآن,بل واضطهاده كما تخبرنا الروايات من عثمان بسبب تمسكه بمصحفه ومقاومة طلب عثمان أخذه لحرقه,وقيل أنه عذب بسبب ذلك ووصي قبل وفاته ألا يصلي عليه عثمان...وقتها كان ما يفعله عثمان أمر بالغ الخطورة فطن له المسلمون,ولقبوه بـ"حراق المصاحف",وحين قامت عليه الثورة كانت من بين أسبابها حركته الجريئة بحرق المصاحف وتعميم مصحفه رغم اعتراضات الكثيرين علي ما فيه,وعلي رأسهم طبعاً بن مسعود. .
نقرأ القرآن اليوم بحرف واحد رغم أنه نزل علي سبعة,لنفس السبب الذي يجعل السعودية تخصص شهراً واحداً للحج مع أن الحج"أشهر معلومات"لخدمة التجارة والاقتصاد,وتمنع زكاة الركاز التي من شأنها إطعام فقراء المسلمين الذين ينامون جوعي,بينما الطعام هناك يرمي في القمامة لا يجد من يأكله,و الذي ذبح المسلمون بعضهم بعضاً طوال قرون بدعوي(سني/شيعي),لنفس السبب الذي جعل الحاكم ظل الله في الأرض,وجعل الخلافة في شرع البعض جزء من إقامة الدين...استخدام الحاكم للدين بدعوي حمايته بينما هو يحمي به سلطانه كيلا يزول.
 وبعد ما يقرب 14قرناً من قراءة القرآن علي حرف واحد,نجد بحر دماء الفرقة والتناحر والخلافات مرعب ومخيف,نري اليوم جزء منه إعادة تمثيل لما كان يحدث في الحروب المدمرة,التي كانت تبيد دولاً وممالك,وتثكل الأم وتشيب الوليد وتفرق الأحبة,لنا أن نتخيل لو كنا لليوم نقرأه علي سبعة أحرف ماذا كان يمكن أن يكون؟!!! 




الخميس، 9 مارس 2017

درب المهابيل وعبث الأقدار!

درب المهابيل وعبث الأقدار!
اختار سلامة موسي اسم"عبث الأقدار"لتكون عنوان رواية نجيب محفوظ الأولي عن حضارة مصر القديمة,كأنه يتنبأ بما ستكون عليه فلسفة تلميذه الشاب بعد ذلك,حيث ستكون شخصياته واقعة تحت تأثير ضربات القدر الهائلة التي تطحن البشر بلا رحمة.
فيلم درب المهابيل عن قصة محفوظ وشاركه كتابة السيناريو مخرج الفيلم توفيق صالح,توفيق صالح قليل الإنتاج لظروف سياسية وفنية وقفت عقبة في طريقه حتي اضطرته للهجرة من مصر, بعد أن شارك في صياغة السينما المصرية في عصرها الذهبي بأعمال قليلة العدد عميقة التأثير.
طوال مدة الفيلم كانت الموسيقي التصويرية للفيلم نابعة من ذاكرتي الموسيقية, سيمفونية كارل أورف كارمينا بورانا في مقطوعة القدر "المتقلب كالقمر" كانت هي التعبير الموسيقي عن فلسفة الفيلم,الذي تدور أحداثه في مدة 24ساعة تقريباً,لكنه كان يوم فارق في تاريخ الحارة-مسرح محفوظ الأثير-,كشف النفوس وأقام الأحقاد والكراهية وقتل فيه الابن أبيه.
كم تعبث بنا الحياة...بائعة البريمو التي تسببت في قلب كيان الحارة,بالألف جنيه التي أتت عن طريق مهنتها,فتاة مثيرة للرثاء,تهرق ماء وجهها وإنسانيتها,وتلح علي أهل الحارة علها تظفر بقوت يومها وما يملأ بطنها بعد يوم شاق من اللف والدوران ونشفان الريق,تحمل في يدها حلم الثروة والرخاء والحظ!والرجل الطيب أبو خديجة الذي نذر نفسه للذكر وللحياة الآخرة,تأتيه الدنيا متنكرة في ورقة حظ,وحين يجبر ابنته علي رميها خوفاً من غضب الله أن تدخل هذه الورقة المستخدمة في المقامرة بيته,ويعلم بنبأ ربحها للألف جنيه,يظهر الشك في حكمة الله الذي يؤمن به,ويردد"يدي الحلق للي بلا ودان",يلتقط هذه الورقة من الشارع طفل ويعطيها للمجذوب"قفة"مقابل كوب لبن من المعزة التي يملكها,وتضيع الألف جنيه التي كانت من نصيب طه الشاب المكافح الذي اشتراها في البداية من بائعة اليانصيب وأعطاها لخطيبته خديجة.
ينقلب حال الحارة ويصبح الكل أعداء في معركتهم للفوز بالثروة,كل واحد وطريقته,أصبح قفة هو "الريس"الكل يخطب وده,الجميع يتودد إليه و يمني نفسه بنصيب من ماله,ومن ضمن من يحومون حوله المعلم عمارة العجلاتي البخيل,يعرض عليه أن يشاركه في عمارة يكون هو صاحبها بينما يكتب الأسانسير باسم قفة"أسانسير يطلع السكان فوق,وينزل بيهم تحت,يفضل شغال زي المكوك ناس طالعة وناس نازلة,وناس داخلة وناس خارجة....حاجة تفرح بصحيح"استخدام اللقطة القريبة والمونتاج في هذا المشهد بالإضافة لأداء حسن البارودي وعبد الغني قمر,يبرز معني الأسانسير الحقيقي,دولاب الحظ وعجلة القدر,المتحكمان في الدنيا التي أصبح قفة ريسها في نظر أهل الحارة,الذين يحتاجون كلهم للمال,يفترقون ويتشاجرون وتتغير أخلاقهم من بسببه,ثم تدخل عليه سنية لتغويه بجسدها. وسنية بالنسبة لسكان الحارة ممثلة الخطيئة والعار لعملها في البغاء,والشرور في الدنيا أخفها وأهونها البغاء!الخاطئون علي كل شكل ولون والعار يكلل الكثيرون بتاج الانحطاط والقذارة,لكن الذهنية المصرية اختصرت الآثام في جسد المرأة والجنس,فتصورها أهل الحارة هي المذنبة الوحيدة والمدنسة بمنح نفسها لمتعة الرجال,حين ينتظر عبده وفاة أبيه عمارة ليتزوج منها بعد أن يرثه تبدي أسفاً وتقززاً لما يجول في رأسه,ومن خلال الحوار نعرف قسوة الدنيا التي جعلتها تمتهن الدعارة كسبيل للحياة الشريفة والاستقرار بعد أن تجمع قدراً كافياً من المال,يعينها علي الحياة وتسافر لمكان لا يعرفها فيه أحد وتبدأ حياة جديدة.
لا أحد ينكر أهمية المال في حياة الناس,لكن ما أهم منه هو الحب,وسعي الإنسان المحموم للمال والشهرة والنجاح,تعويض عن حرمانه من الحب,في نهاية الفيلم يكشف لنا محفوظ وتوفيق صالح أن الحب هو الكنز, سعادة طه وخديجة الحقيقية أن يفوزا ببعضهما لا أن يفوزا بالثروة,وراحة البال والضمير من نصيب السقا الذي لم يبالي بالثروة ولا كان لديه أصلاً علم بما جري في الحارة ليلة القتل والدماء,صحيح قد تظلمنا الحياة ويأتي النجاح والمكسب لمن لا يستحق,وفي دولة كمصر قال من ضمن تحليل جمال حمدان لشخصيتها قوله"واحد من أخطر عيوب مصر هى أنها تسمح للرجل العادى المتوسط، بل للرجل الصغير بأكثر مما ينبغى وتفسح له مكانا أكبر مما يستحق، الأمر الذى يؤدى إلى الركود والتخلف وأحيانا العجز والفشل والإحباط.. ففى حين يتسع صدر مصر برحابة للرجل الصغير إلى القمىء فإنها على العكس تضيق أشدَّ الضيق بالرجل الممتاز.. فشرط النجاح والبقاء فى مصر أن تكون اتّباعيًّا لا ابتداعيًّا، تابعًا لا رائدًا، محافظًا لا ثوريًّا، تقليديًّا لا مخالفًا، ومواليًا لا معارضًا.. وهكذا بينما تتكاثر الأقزام على رأسها ويقفزون على كتفها تتعثر أقدامها فى العمالقة وقد تطؤهم وطئًا"تكشف لنا الحياة اليومية في تجاربنا الشخصية,عن مغفل كقفة أصبح هو الناجح الذكي بالنسبة للبلهاء الذين يشكلون الأغلبية الآن,أو الذي يخدمه الحظ والمال بالزواج من امرأة لا يستحقها,بينما كان يسعي لها بالاجتهاد والعمل والحب المتبادل شاب آخر له من المواهب والإمكانيات ما يجعله مكافئاً لها....و....و....عشرات الحكايات يغدو فيها"القفة الأبله"بطلاً وسيداً,ولو لم يكن أبلهاً ففي أحسن الظروف هو مديوكر عليل بائس,دوره في الحياة القضاء علي أصحاب العقول وتحطيم آمالهم,وترديد أوهام وأكاذيب,تخرج من فمه بفضل حظه الذي جاءه,لتقهر المبدعين والمفكرين...حكمة الأقدار وعبثها!


الثلاثاء، 7 مارس 2017

شويخ من أرض مكناس


الملمح الأبرز الذي يمكن اكتشافه عن طريق عين النقد الأدبي,لشعر الششتري,هو خروجه عن قاعدة الشعراء الصوفيين في التعبير عن مواجدهم وتجربتهم باللغة الفصحي الرسمية,التي ظلت هي الفاصل بين الأمي والمتعلم في الحضارة العربية,حيث كانت هي لغة القراءة والكتابة والأدب وتداول المكونات الثقافية في الأمة العربية,ولكونها لغة القرآن كانت هي الوسيلة المثلي عند الصوفية لإفراغ قالب أشعارهم فيها,وللشعر الصوفي عامة سمات مشتركة ومواضيع اهتم بها أهل الطريقة السالكين نحو المعاني متوسلين بالكلمات والقصائد.
استخدم الششتري العامية لشرح معانيه الذوقية,متمرداً علي العرف السائد في الأدب الصوفي,وهذا التمرد والانعزال عن التقاليد عموماً,نجده يبدأ به إحدي قصائده الشهيرة فيقول معلناً للناس زهده عن الناس!:
شويخ من أرض مكناس في الأسوق يغني
إيش علي من الناس وإيش علي الناس مني
هذه القصيدة تضعنا في حالة تناقض بالنسبة لقيمة الششتري في تاريخ الأدب الصوفي,فعلي الرغم من شهرتها مما جعلها أغنية مفضلة للكثير من المطربين المعاصرين,وتلقي استحساناً من المستمعين كلما غُنيت,نجد أن أي باحث في تراث الششتري يشكو من قلة الاعتناء بأعمال الششتري مقارنة بغيره من الصوفية,مما أدخله في دائرة شعراء الصوفية المجهولين.