السبت، 9 مايو 2015

المشائي والمعتزلي

لطالما استغربت من المناوشات التي تنشأ بين أناس يعتقدون أن الأدب والعلم في حلبة صراع علي العقل الإنساني,فريق يؤيد العلم علي حساب الأدب,وفريق يؤمن بالأدب علي حساب العلم,ويبدأ الجدال بينهما حول الأفضلية!!
أؤمن بأن العلم والأدب وجهان لعملة واحدة(الصدق/الحقيقة/الإنسان) كلاهما,يبحث عن نفس ما يبحث عنه الآخر,ولكن اختلفت الآليات ونقاط الانطلاق نحو الهدف,هما قدما الإنسانية نحو تحررها من سطوة الجهل والخواء,وطريقة أساسية لاستعادة إنسانية الإنسان المفقودة,أو بالأحري الإنسانية التي يحلم بها ولم يبلغها بعد رغم جهاده الطويل الأليم!
يعبر كتاب الحيوان للجاحظ عن هذا المعني بوضوح,لو كان في الأدب العربي عشرة من الأوائل فلابد أن يذكر الجاحظ من ضمنهم,أديب حقيقي يملك ناصية اللغة ويطوع البيان لما يريد توصيله,مصداقاً لقول الله تعالي"الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان"ذكر البيان مباشرة بعد عملية خلق الإنسان,كأنها هي الشاهدة علي إتمام خلقه,والإنسان مجرد فرع من شجرة الحياة المعقدة,أي هو حيوان,والحيوان وصف يطلق علي كل حي,فليست سبة ولا شتيمة,وعند الجاحظ مواصفات الخلق مسرودة بالبيان الذي علمه الله للإنسان!
براديجم علمي جديد يقف في مواجهة براديجم أرسطو,وكفي بالجاحظ شجاعة أن يقف في وجه أرسطو سيد الفلسفة لقرون طويلة,لدرجة أن ابن رشد اعتبر خلق الله لأرسطو عبرة علي وجود الإنسان المفكر الكامل,ولا ينكر أحد عبقرية أرسطو المتفردة,لكن في العلوم الطبيبعية تتبدي لنا آراؤه مثيرة للضحك وللسخرية,وقد كنت قبلاً لا أصدق ما أجده من مقولات أرسطو وأظن أن هناك خطأ ما في النص,ووجدت الجاحظ نفسه في الحيوان يعتقد أن المترجمين أخطأوا في ترجمة آراؤه!!
الجاحظ مبدؤه في منهجه العلمي التجريبي القائم علي الملاحظة والاستنتاج ثم وضع نظرية مستندة لمشاهدة علمية"لا تشفيني إلا المعاينة",هو رجل يعتمد علي الشك ليصل لليقين" فاعرف مواضع الشّكّ، وحالاتها الموجبة له، لتعرف بها مواضع اليقين والحالات الموجبة له."وهنا يتجلي لنا مذهب الجاحظ المعتزلي,فهو بالعقل يقبل وبالعقل يرفض,يناطح أرسطو ومع كل رواية يستخدم ألفاظ مثل"قالوا,زعموا....,......,"فالجاحظ يدرك جيداً أن الحقيقة العلمية ليست في النصوص والروايات بقدر ما هي موجودة في التجارب والنظر العقلي والعمل اليدوي,فهو يقوم بإجراء تجاربه ويسأل الجزارين والصيادين والحواة وأصحاب الطيور والأفيال عما يجدونه.ويأتي العلم الحديث ليقارب الكثير من استنتاجات الجاحظ وينفي ما كان يتعقده أرسطو.
في متون الجاحظ ومتون أرسطو عن الحيوان ووصفه عديدة, اختلافات عديدة تبعاً لطريقة تفكير وللإنصاف أيضاً معارف كل عصر منهما,فما توفر من معارف للجاحظ تزيد بالطبع عما كان في عصر أرسطو,ويبقي الاختلاف الأساسي اختلاف منهجي في طريقة البحث والتناول والقدرة علي الاستنتاج,الجاحظ لم يكن رد فعل علي أرسطو وإنما كان له نداً,مستخدماً الصبغة الأدبية في كتاب علمي.
المشائي والمعتزلي يجمعهما , النهم للمعرفة في شتي مجالاتها,واهتمامهما بشركاء الحياة علي الكوكب والرغبة في دراستها وفهمها وهو ما يتضح في شغفهما بفروع أفراد العائلة الأرضية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق