الأحد، 26 أبريل 2015

الإنسان هو الحل


تزدحم الأحاديث عن عصر النهضة وعوامل ظهوره في المجتمع الأوروبي,عقب العصور الوسطي المظلمة,بالكلام عن العلمانية و انهيار سلطة الكنيسة والمطبعة وسقوط القسطنطينية في يد محمد الفاتح وبروز عائلة آل ميديتشي,.....,.....,.....وكل تلك العوامل هامة ومصيرية في التحول العظيم الذي اتخذ من إيطاليا مركزاً له,لكن كل تلك العوامل عوامل تاريخية ارتبط ظهورها بظروف معينة وأشخاص مروا في التاريخ بعد ترك أثر هام فيه,لكن هناك عامل جوهري خالد لا يتغير ولا يتبدل,قد يظهر علي أنه اثنان لكنه واحد فقط تجلي في لفظين(الحب/الإنسانية).
شاعر رومانسي مشتعل بالحب,حين مات دانتي العظيم كان حينها في السابعة عشر من عمره,ولو كان ولد بعد وفاته لكان دليل لمن يؤمنون بتناسخ الأرواح,فقد تكررت مأساة دانتي العاطفية فيه,كأنها مشهد سيناريو يعاد تمثيله من جديد بممثلين جدد,كما أحب دانتي بياتريس التي خلدها في الكوميديا الإلهية,أحب بترارك لورا وخلدها في أشعاره الملتهبة,وكان سبب هذا التخليد الأدبي فقد حبيتيهما في الحياة,بعد نظرة أعقبتهما ألف حسرة وحسرة...بترارك سيبدأ به عصر نهضة وسيطلق عليه أبو النهضة,وسيبالغ البعض ويدعونه "أبو الإنسانية"!!!
عمل بترارك الأساسي الخالد في كل عصر ومصر,قصائده العاطفية الموجهة نحو المحبوبة لورا,رغم أنها مترجمة إلا أن حرارة الحب متوهجة في معانيه العاطفية,نفس الحال أيضاً نجده مع صديقه بوكاشيو صاحب"الديكاميرون"أو ألف ليلة وليلة الإيطالية,وهي مجموعة قصص تسير علي نهج ألف ليلة وليلة.
بعد انتشار الطاعون في أوروبا يهجر عشرة أشخاص سبعة نساء وثلاثة رجال,المدينة ويتجهون نحو الريف هرباً من الوباء,الذي فتك بالناس والحيوانات وجعل الأشخاص يموتون بلا حساب,ولم يعد للموت طقوس ولا أحزان فقط رمي في القبر بسرعة خوفاً من الأمراض التي قد يلحقها بالأحياء تعفن الأموات!!لكن الحياة وحب الحياة ما يزال يدفع هؤلاء العشرة نحو الهروب,وكما دفعت شهر زاد عن نفسها الموت بحكاية القصص دفعت هذه المجموعة عن نفسها شبح الموت وحصار الطاعون بالقصص والأدب"يا موت هزمتك الفنون جميعها"!-ما أصدق درويش-هذه القصص في الأيام العشرة التي قضونها في حكيها,مرآة صادقة للنفس الإنسانية ودروس حقيقية في الحياة,ينتهي العشرة من حكاية قصصهم بأغنية عن ماذا؟عن الحب!!الحب الذي تجلي من ضمن ما تجلي من معاني الحياة في الديكاميرون,مع طبعاً السخرية الشديدة والهجوم اللاذع علي سلطة الكنيسة والهزء بالدين بل وبالمسيح في شجاعة في بعض القصص,ولا نجد فيها فكرة الخطيئة والتطهر والعذاب التي حطمت أرواح الناس في العصور الوسطي,إنما نجد فيها المتعة الجنسية الأيروتيكية بوصال المحبوب والتمتع بلحظات العشق الجسدي الذي يعتبر ألذ المتع في حياة الإنسان,والحرمان منه يسبب له مشكلات نفسية وعصبية تترك أثرها في المجتمع ككل,فيحل العنف محل الحب والكراهية محل التسامح,والحقد محل الغفران,ويصبح المحروم قنبلة موقوتة تمنع ظهور أي فن أو حضارة...
الآخر هو المبتدأ والمنتهي في حياة الإنسان,إن كان هذا الآخر رجلاً أو امرأة,الإنسان لا تكتمل إنسانيته وتولد لحياته معني إلا لو اكتمل بالآخر عن طريق الحب,الحب يحررنا من اللامعني والعبث الذي يطاردنا في الحياة,ربما لم يعرف أهل عصر النهضة كم الكون متسع,أو لم يروا صورة الكرة الأرضية وسط محيط لا نهائي المساحة يصعب علي العقل البشر تخيلها,لم يعرفوا أنها مجرد"نقطة زرقاء باهتة في الفضاء"علي حد تعبير كارل ساجان ولم يسمعوا بنظرية التطور التي بلورها داروين وهي قديمة في عمق العقل الإنساني منذ الحضارة السومرية,ويتأكدوا أنهم والقردة لهم أصل مشترك واحد,وأنهم ينتمون إلي شجرة الحياة علي الأرض,كانوا قبلاً وفي عصر بترارك وبوكاشيو ينظرون إلي كوكبهم علي أنه مركز الكون وحوله يدور كل شئ في الدنيا ولأنفسهم علي أنهم مخلوقون علي صورة الرب ذاته!!قبل أن تأتي الزلازل العلمية التي أطاحت بكل غرور الإنسان وحماقته التي جعلته يظن نفسه شيئاً,كانت حياتهم في خيالهم أقل عبثية وأقل في اللامعني منا نحن اليوم,لكن كل هذا كوم والحب كوم آخر...
تأثير الحب علي الفرد كتأثيره علي المجتمع,إنسان بلا حب إنسان بلا أمل أو عمل,وهكذا المجتمع الذي يفقد فيه المعني الأعظم والأسمي في الوجود البشري,حياة الإنسان بلا حب حياة رخصية,أما لو دخلها الحب فستصبح غالية,لأنها لم تعد ملكه وحده,وسيبدأ التفكير في كيفية التمتع بها علي النحو الأمثل,سيسعي نحو الخير والجمال والحرية والسعادة والعلم والمعرفة...أي سينهض بعد سقوط,وسيعلو بعد خسة,وسيرتقي بعد انهيار,وسيغدو المجتمع مجتمع أصحاء عقول ونفوس...لم يكن المثل الشهير"ابحث عن المرأة"إلا إشارة لأحد أسرار الحياة العظمي,فنحن مثلاً نجد في أسطورة جلجامش أن إنكيدو بعد أن خُلق متوحشاً يألف الوحوش والحيوانات ويتصرف مثلها,اكتسب انسانيته عن طريق اتصاله بالمرأة.
الحب بمعناه الواسع هو ما جعل النهضة ممكنة,مع كل التقدير للعوامل الأخري,لكن ماذا ستفعل العلمانية في مجتمع لا يحب الحياة أصلاً ولا يهتم بها ويسعي بكل قوته نحو التفكير في أن من يختلف عنه سيعذب أبداً في الجحيم بينما هو وحده من سينال رضا الله...لا حول ولا قوة إلا بالله!ماذا ستفعل المطبعة بكل ثورتها التي تعادل اليوم ثورة الإنترنت,في مجتمع لا يحب القراءة ولو قرأ لا يهتم إلا بالغيبيات وأمور الطبخ والجنس الرخيص المبتذل,ماذا ستفعل انهيار سلطة الكنيسة في وسط مجتمع لا يحب الحرية وسرعان ماسيستبدلها بحاكم مستبد ينحو نحو التفلت العلماني المقيت في سبيل الاستحواذ التام علي كل سلطة تقع علي عاتق الإنسان.
ليس من المدهش إذن أن يكون بترارك هو أبو النهضة...
الفن أيضاً رمز فني معبر عن عصر النهضة,والفن هو العمق الغائر للحياة المعاشة في نفوس من يعيشونها,يوضح لنا زمن النهضة وتتجلي فيه رموزها,كما تجلت في لوحة السفيران لهولباين,حيث نجد فيها رموز هندسية وجغرافية ودينية شاركت في بناء عصر النهضة,وفي خدعة بصرية تبدو لنا جمجمة تحت أقدام السفيران!!هل كان يعني هولباين أن الموت أصبح مخفياً أو أن اختفاؤه وعدم التفكير فيه والغرق في الحياة حتي يأتي هو متي يشاء السبيل لصناعة النهضة,أم كان يعني أن الموت لا يهزمه شئ ولو تخفي فهو موجود ومصير الكائن البشري يتجلي تحت قدميه في صورة قبر سيدفن فيه,ويتحول جسده لعظام بالية؟!
الجسد الإنساني في رسومات النهضة تبدي جميلاً ورائقاً وشهياً في لوحات عصر النهضة,تخلي عن معناه كشئ مدنس تطارده الخطيئة وسيودي بصاحبه لجهنم وعذابها لو أساء سلوكه,أصبح مادة خصبة لعرض إبداع الخالق في خلقه,ومن سيستطيع التعبير عن الجمال الجسدي غير المرأة وهي مستلقية أو واقفة أو منحنية تبدو استداراتها مع بشرتها النقية العارية في الهواء الطلق كتذكير بالمبدأ الديني بعودة أبناء آدم مرة أخري إلي الجنة التي طرد منها أبيهم!
بدأ عصر النهضة لما عرف الإنسان أنه طالما علي الأرض فهو مرتبط بالأرض أولاً وأخيراً,وأنه لا معين له كما أثبتت تجربته العملية الدامية المؤلمة علي هذا الأرض إلا بعلمه وعمله,روحه ستسكنها وتهدئها الدين,لكن حياته المعاشة لا سبيل إلي تهدئة اضطرابها وتسكين قسوتها إلا بما سيفعله اتجاهها إن خيراً فخير وإن شراً فعليها!
بدأ عصر النهضة حين بدأ عصر الحب,الذي سيكون له  مع شكسبير-أحد أهم أسماء عصر النهضة في إنحلترا- مسرحية خالدة تهز الوجدان علي مر الأجيال"روميو وجولييت",حيث الحب هو سيد الأرواح والمصائر وبدونه سيصبح الموت راحة,أو كما قال المتنبي:
"كفي بك داء أن تري الموت شافياً     وحسب المنايا أن يكن أمانيا
طالما كان الحب موجود في مكان وزمان ما فهو أوان النهضة المناسب,أما لو اندثر وأصبح أطلالاً يعيش علي ذكراها من حرم من العيش في مساكنها,فلا نهضة ولا حياة,بل مكان حقير سافل يقتلنا واحد وراء الآخر ويخدعنا بأن يبقي أجسادنا فقط تتحرك وألسنتنا تتكلم!!!
الحضارة الفرعونية التي ننتمي إليها قبل كل شئ,لم تنهار وتبدأ في التفكك إلا بانهيار منظومة الأسرة وازدياد أعداد الانفصال بين الأزواج,أي لم يخسر الأجداد العظام إمبراطوريتهم التي بنيت علي العدل والعلم والمساواة والعمل إلا بعد أن غاب الحب وخسر الإنسان نفسه,ولم يعد له مرآة يري نفسه فيها ويحسب لمستقبله حساب ليؤمن به حبيبه!!
والحب وصياغته من جديد صياغة تعيد له سموه ومكانته في الروح الإنساني,هو السبيل الأول الذي يجب سلوكه اليوم لمن كان يود أن يكون له نهضة كنهضة أوروبا في "عصر النهضة"الذي كان جول ميشليه أول من استخدم هذا الوصف لتلك الفترة في حياة أوروبا,كما كان أول من أطلق لفظ"العصور المظلمة"علي القرون الوسطي التي توسطت الزمن اليوناني والنهضة الأوروبية هو بترارك.
النزعة الإنسانية هي المحرك الأساسي لعصر النهضة بعد أن كان مولده علي يد الحب,أن يكون الإنسان هو محور كل شئ,حتي الدين الذي كان عبئاً قاسياً عليه أصبح أداة لخدمته-وهو هكذا فعلاً في الأساس!!-فاليوم لا يجد بابا الفاتيكان ضرراً من التصريح بأن الجنة والنار ليسا إلا حيلة أدبية وأن الله هو المحبة المطلقة وليس عنده إلا النعيم الذي سيكون لكل إنسان نصيب فيه حتي الملحدين الذين ينكرون الدين أصلاً مادموا أناس شرفاء أصحاب ضمائر!!
الهيومانيزم هو الاسم الذي لابد من ترديده مراراً وتكراراً,إلي أن يصبح هو الشغل الشاغل لأي مجتمع يود السعي نحو الحضارة التي تقطع فيها أوروبا اليوم مسافة جعلتها تنطلق من الأرض بحثاً عن كواكب أخري صالحة للحياة؛لاستعمارها!!
الإنسان هو الحل وليس أي شئ آخر,ومادام هذا المعني غائب عن المجتمعات المتخلفة فلتغرق حتي الموت...الحق أنها غرقت فعلاً ولن يجدي معها النداء.

في إيطاليا اليوم-المركز الإشعاعي في عصر النهضة- جراح من نتاج عصر النهضة,يحلم بأول عملية زرع رأس في العالم,سيرجيو كانافيرو أو كما يسمونه "المجنون",ولو نجحت تلك العملة ستطرح أسئلة عن ماهية الإنسان وما هو تعريفه بالضبط,وهل هو مخ أم جسد أم روح أم ماذا؟ليعيد مرة أخري طرح نفس الأسئلة التي ثارت في عصر النهضة,تأكيداً أن فهمنا للإنسان والسعي من خلاله لفهم الكون وطبيعة الوجود هو ما يجعلنا جديرين بوجودنا هنا علي هذه النقطة الزرقاء الباهتة السابحة في كون لا نهائي مدهش وساحر وعجيب,وعصي علي الفهم,إننا لا نعرف أي فائدة لوجود هذا الكوكب فضلاً عن وجودنا نحن,لكن في إمكاننا أن نجعل لوجودنا عليه فائدة تعود بالنفع علي الباقيين,وأجمل شعار لهذه الفكرة"الإنسان هو الحل",وليس أي شئ آخر؛فبه وله تقوم النهضة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق