الأحد، 26 مايو 2013

...ولا تزال الأمكنة فاسدة!


...ولا تزال الأمكنة فاسدة!
كان الأولي بهذا الحديث أن يتساءل,لماذا لم يوضع صبري موسي في مكانه الطبيعي ككاتب عالمي,اكتشف الحياة الإنسانية بعيون متفردة,في رواية "فساد الأمكنة"؟...هل للاسم علاقة باكتشافه الخاص للحياة؟!!
لكن سيقتصر كلامنا فقط عن تلك الحياة التي قدمها صبري موسي في روايته المطمورة بفعل فاعل,هذا الفاعل صبري موسي نفسه,بابتعاده عن الأضواء,وترفعه عن المتاجرة بأدبه والتسويق له,ولو كان يتقن فن العرض والبيع,لما كان تم الحديث عنه مسبوقاً بلقب"المرحوم",في جريدة تابعة لوزارة الثقافة المصرية!لكنه ليس الأول ولن يكون الأخير,تلك طبيعة الحياة الثقافية في مصر,مهرة جامحة تطيح بمن لا يشكمها,ويسلس قيادها علي حساب فنه وأدبه,وصبري موسي اختار فنه,وسيبقي اسمه حتي ولو لم يركب المهرة,وتسلط عليه الأضواء.
الدرهيب....المنجم والقبر:
سنصادف في فساد الأمكنة,تناقضات كثيرة أبرزها المؤلف ببراعة؛لقرائته المتأنية للحياة من حوله,التي رمز إليها بجبل الدرهيب,قد يكون في هدفك نهايتك,نيكولا المأساوي بحق,قد وجد بغيته متجاورة مع نهايته.
يستقبل الإنسان نور الحياة بعد خروجه من بطن أمه,ويودعه لحظة دخوله القبر,وبتلك البساطة سيبدأ الراوي حكايته,عن نيكولا:"الذي كانت فاجعته في كثرة اندهاشه,وكان كل شئ يحدث أمام عينيه جديداً يلقاه بحب الطفل,لدرجة أنه لم يتعلم أبداً من التجارب",كالدائرة كانت حكاية صبري موسي عن نيكولا,انتهت من مكان بدايتها تماماً,من الدرهيب للدرهيب,كانت قصتنا مع المأساوي المعذب نفسه,من نهاية البداية إلي بداية النهاية...كما ينتهي الفصل الأول ينتهي الفصل الأخير:"...ويقبع مسنداً ظهره إلي صخور الدرهيب التي بدأت في التثلج,حتي يظهر في شرق السماء كوكب المريخ باحمراره القرنفلي الخفيف مطلاً فوق جزيرة العرب...ويبدأ المشتري في الغرب يتأرجح بعيداً فوق صحراء ليبيا...فيسبح عقل نيكولا في الملكوت"
لكلمة"الدرهيب"ذاتها"وقع مختلف علي القارئ,وقد كان الاسم ملهماً للراوي أثناء رحلته لهناك.
وبين البداية والنهاية تعرض علينا مأساوية نيكولا.
البرئ يدفع الثمن والمذنب ينجو:
الإنسان صانع الحياة وصانع الحضارة,بيده وحده أن يقيم لنفسه بنياناً قوياً,وأساساً صلباً من عمله وعلمه,واجتهاده المتواصل في سعيه نحو آماله,وبنفس اليد قد ينقض كل ما بناه وينفض عن نفسه رداء المدنية,ويرتكب من الأفعال البدائية ما من شأنه أن يدمره....نيكولا الماساوي؛لأنه مأساوي فعل الثانية,مدينته الصغيرة التي بناها,ومعادنه التي يستخرجها وابنته التي توهم مضاجعتها,وقتلها في في الدرهيب,الذي يقف بطلاً بذاته,ينقصه فقط صوته الذي حرمنا منه الراوي,فالمكان الفاسد لابد أن يكون أخرس,حتي لا يتحدث بفساده,ورربما يتسع ذلك المكان ليصبح دولة كاملة,مصر الملكية,التي يغتصب فيها ملكها إيليا الصغيرة,ويستولدها ابناً,يظنه الغلبان الموهوم ابنه هو,حفيده وابنه!لو كان الراوي قصد بالأمكنة الفاسدة مصر الملكية,فقد صدق,الفساد في مصر نخر في الأمكنة حتي أفسدها,فحدثني إذن عن البشر!!
الحلم يجتذب الحالم وراءه حتي ولو علم أن فيه نهايته,لكن المأساوي لم يعلم أن حلمه يقوده للهاوية التي ليس لها قرار,لم يدرك نيكولا أثناء سعيه للبحث عن المعرفة والمال أنه يدفع عمره وحياة عائلته ثمناً لذلك الحلم,ومأساوية نيكولا ليست في الثمن الذي دفعه,بل في كونه هو وابنته الثمن,لشئ لم يتحقق,إلا إن كانت متعة الملك وهو يضاجع إيليا الصغيرة العذراء تستحق هذا الثمن.فالسلطة المستبدة تأكل حتي شركائها الذين ظنوا لوهلة قصيرة أنهم تحولوا لجزء منها,لمجرد اقترابهم المرتجف منها,ولما كان الدرهيب ملمح شبه نهائي-وسيبقي أبداً شبه نهائي-فلا يزال هناك متسع للعديد من الضحايا...المأساويين رفاق نيكولا.
نيكولا يا مصلوب...لست وحدك المأساوي.
مصير نيكولا التعس ونفسيته العجيبة يقودانه لدفع  ثمن أخطاء لم يرتكبها,والأنكي من ذلك اقتناعه بارتكاب ذنب هو منه برئ,بينما الملك المذنب الحقيقي يمارس لذته ثم يترك العبء علي غيره.
العلاقات المثلية والزنا بالمحارم:
التابوهات الثلاثة المعروفة في البيئة العربية,لا يتم الحديث عنها إلا همساً وبصورة تكاد لا تفهم,وقد فعل صبري موسي ذلك في الحديث عن علاقة إيسا بنيكولا,الذي بها ميول مثلية كامنة كما هي ميوله ناحية ابنته رغم براءته الواقعية من كليهما,إلا أن نيكولا مصمم علي تعذيب نفسه بما لم يرتكبه...غريبة نفسية نيكولا هذه,قد تكون تشبهت بالمسيح تحمل خطايا آخرين لم يرتكبها هو,في أغلب الأعمال التي تناولت العلاقات الجنسية المثلية,كانت تناقشها بتعجل,كأنها تعتذر عنها ولا تريد أن تزعج القارئ بها,لكن قارئ اليوم حين لم يعد يكتفي بالتلميح,يريد الشجاع الذي يحكي له ما يحدث في عالم الاختباء فيه عيب,في ظل كل تلك الكشافات المعرفية التي تظهر كل ما كان من قبلنا يريدون اهالة التراب عليه ودفنه.
المصري والروسي...والإنسان:
العلاقات الإنسانية في الرواية علاقات تكاد تكون روحية,فرغم قلة الحوار المباشر نسبياً في السرد الروائي,إلا أن كل شخصية تؤثر في الأخري بصورة قاطعة,فمصائر الكل ارتبطت بالمكان,والمكان هو هدفهم وما يحويه,فكان الرباط حتي ولو علي بعد,فإليا الكبيرة ارتبط مصيرها بشكل أو آخر بالملك فاروق في مصر,وبأنطون الذي تزوج ابنتها,حتي حمي نيكولا أنقذته رحلة الدرهيب من القتل علي يد نيكولا,وإيسا وعلاقته بنيكولا,توالدت مع علاقة ابنه بإيليا,فعالم الرواية مغلق بسلاسل مصيرية لا فكاك منها كما قرر صبري موسي,ورسالته قد تكون:علي الأرض نحن كيان واحد ولو تباعدنا,فالبشر هم البشر مهما تعددت الألسنة والألوان والثقافات,قلوبنا المحمولة في أجسادنا لها لغة وحديث غير كلماتنا الفارغة في مجملها,تلك التي لا تقول شيئاً,استمع لقلوب البشر من حولك,وللعالم الذي تعيش فيه ويعيش فيك,وستري الاكتشاف..لكن احذر قد مر نيكولا من نفس الطريق,وقد رويت حكايته,فتأمل خطواتك.
أنسنة ما هو غير إنساني والرؤي المغايرة للمألوف:
كما تري الشئ يكون.رأي نيكولا جبل الدرهيب كجسد,وليس جسد فقط بل جسد شهواني يشعر به حتي الرجفة:"إيليا شهوة جامحة جامحة...كما أن الجبل شهوة جامحة..ما الغريب حين تتكرر في جسده تلك الرجفة حين يقف في قلب الدرهيب العظيم...في السراديب الحارة والسراديب الباردة..يتحسس الجدران البكر مختبراً طراوتها..محدداً بالطباشير الأبيض علامات لعماله ليثقبوها بآلاتهم..ويحشروا في بكارتها أصابع متفجراتهم"
فالجبل يصبح كامرأة صاحبة بكارة...الدرهيب العظيم.
وعلاقة الجميع بالصحراء,كعلاقة التائه بمرشده,فالصحراء فيها ما يحتاجه الغرباء,وأم قاسيةلابنائها,كالمجتمع المصري تماماً,فحين يجد الغريب فيه الكنوز التي يستفيد منها,إذا بالمصري لا حول له ولا قوة في وطنه,شعور إيسا وهو يري الغرباء يستولوون علي ما يملكه هو ذاته شعور الوطني الغيور حين يري استنزاف ثروات بلاده...لماذا لا نعتبر تلك المخاطرة التي قام بها وأعني بها أخذه للذهب,كعملية فدائية؛ليثبت بها لجده أن أبناء الصحراء قادرون علي الفعل لو أرادوا.
حكاية عبد ربه كريشاب,تحمل في طياتها روح الحلم,حتي في أسلوب سردها,نجد صبري موسي حالماً بأسطورة عروسة البحر ممثلة لتلك التي القوي العجيبة التي تقهر الإنسان ويقهرها,لو اسهب قليلاً في وصف العملية الجنسية التي جمعتها لوجدنا أن العلاقة بينهما علاقة احتياج,فكما تحتاج عروسة البحر للرجال,يحتاج الرجل للتحدي وإثبات الذات أمام ما يهدده.الإنسان دوماً لو انتصر فهو مهزوم بصورة أو أخري,ولو كان الراوي غاص في تلك الحكاية وعبر عنها باستفاضة,كنا سنخرج منها بعراك الإنسان العاري مع ذاته,فالقهر والجنون كانت نهاية طبيعة لمن يخوض تلك المعركة علي الصورة التي خاضها كريشاب.
التصوف والفناء...هل يفعلها المأساوي؟!
بروح المتصوف كتبت تلك الرواية,فكانت للصوفية فيها صدي واضح,تردد في عمق الصحراء علي مدار الرواية,في لفتات عدة تشي بوضوح الحس الصوفي عند الرواي والبطل.الرواي له ثقافة والبطل له ثقافة مغايرة,لكن الإنسان هو ذاته,مشاعره لا تختلف من جنسية لأخري,اللغة فقط هي ما تختلف,والعادات السطحية,لكن الجوهر يبقي واحد,والروح تظل كما هي في كل البشر,البحث عن الحقيقة والثبات في العالم المتغير العجيب,هذا الذي يجعل من الروحانيات والسمو أسطورة لها العجب,ورغم فشل المأساوي في التوحد والفناء مع الطبيعة من حوله,إلا أن محاولته كشفت عن الجزء الروحي المقاتل في وسط دنيا لا تعرف سوي الماديات والمحسوسات..للصحراء روح ككل شئ في الدنيا,لكن الفراغ الصحراوي تبدو فيه تلك الروح حية لمن يتأمل,لتلك الروح لغة صوفية,تخاطب القلب,حاول المأساوي الحديث معها والتلقي منها والإرسال لها,لكنه لم يفعلها أبداً...هائماً سيعيش المأساوي دن توحد مع شئ.
الثورة علي الأمكنة الفاسدة:
بعد عامين من ثورة يناير نستعيد فساد الأمكنة,ورائحة العفن والفساد لا تزال كما هي,الأمكنة الفاسدة توحشت وتوغلت حتي أصيب الإنسان بالعطب,لولا بقية من أمل,ودفعة من دم الشهداء لسقطنا اختناقاُ من رائحة الفساد التي تحتاج إلي أكثر من ثورة.
يبقي صبري موسي شاهداً علي ثورتين,نقرأ له عن الأمكنة الفاسدة بفعل القهر والاستبداد من ملك لرئيس,لماذا لم نستمع لتحذيره الصارخ وهو يحدد مفسدي الأمكنة,كيف تغافلنا عن اشارته للسلطة والمال,ودورهما في تلويث الطفل وبراءته والمكان ونقاوته؟-لم يكن الاستخدام السياسي للدين قد برز بعد-...هذا الجيل قرر أن يزيل الفساد المتوطن الأمكنة بدمه...فهل يكفي الدم وحده؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق