السبت، 9 يونيو 2012

نجيب سرور أو فارس آخر الزمان


نجيب سرور أو فارس آخر الزمان




هذا المقال سيكون رديئاً جداً,أعلم هذا قبل أن أكتبه.كيف يمكن وصف عشقي لنجيب سرور,بكلمات...مجرد كلمات!!!

أتخيله الآن جالساً  بملابسه الرثة المهلهلة أمامي,ممسكاً بزجاجة خمر,مشعلاً سيجارته,يدمدم حانقاً علي الجميع:
-أكتب,أكتب.هي جات عليك…قول إنت كمان حاجة من نفسك.
ثم ساخراً بمرارة-أو أضف ثلاث نقاط للسين-:
-همَّ يعني ولاد(.....)دول احسن منك في ايه!!!
لا يسعني أمام هذا الفنان سوي الصمت.الصمت المخلوق من ألم,كيف ارتبطت روحياً بهذا الرجل!كيف زلزَّلتني كلماته,كأنها معاول هدم,و أدوات بناء في آن!كيف أتذكره دوماً كلما استعدت الأوباش الذين قابلتهم في حياتي!

لذلك لم أردّ عليه حينما سخر مني-في خيالي بالطبع-دعه يفعل ما يريد,لن نعذِّبه حتي بعد مماته؛لذلك تأملت هذا الوجه ملياً,وعدت أنظر إلي الشاشة محملقاً.........
هل لي أن أقترب ولو قليلاً,من ابداع نجيب سرور؟لا أريد سوي ملامسة العتبة...العتبة فقط فهذا يكفي جداً.من يدخل عالم نجيب سرور لابد أن يحترق بناره,وقد احترقت منه كثيراً,تلك الليلة أود أن أقف علي العتبة مشاهداً.


صرَح زكي نجيب محمود قائلاً"أنا أعرف عدداً لا بأس به ظفروا بقمم في دنيا ثقافتنا دون وجه حق"
ولم يحدد من.ولا أعرفهم للأمانة,ولكنني أعرف جيداً هؤلاء الذين بقوا عند السفح,وكان لابد لهم أن يقبعوا فوق الذري,من هؤلاء:العظيم المجهول نجيب سرور.

يختزل من لا يعرف الرجل,اسمه في(الأميات)بسحرها الخاص ولغتها الصادمة؛فأصبح لدي معظم من سمع الأسم:نجيب سرور=الأميات.معادلة مؤلمة جداً تجعل من يدرك قيمته آسفاً أشد الأسف علي ضياع قيمة عظيمة كنجيب سرور.لن أتحدث عن الأميات فبعد أن حفظتها عن ظهر قلب,أصبحت كالنخجر المسموم في صدري!ما كل هذا الاستبصار الذي وصل إليه هذا الرجل؟,كيف تحمل بشاعة الألم فاختار أن يعبٍّر عنه ببشاعة الكلمات؟كيف كتبها؟متي توصل لتلك الرؤية الحياتية المدهشة لماذا......كلا لن أستسلم للإغراء وأتحدث عنها,وإلا اختزلته أيضاً في أمياته.

لا يزال يصبّ كأسه,وينفث الدخان بكثافة,ثم يتحدث إليَّ بلهجة حادة ممتزجة بالمرارة دون أن ينظر ناحيتي,فقد ظل يتأمل الكأس في يده:
-قول ياض إني عملّت كل حاجة في الفن...كتبت شعر,ومسرح,ونقد,ومقالة....مثلّت وأخرجت.......أقول إيه ولا إيه....عليا الطلاق أنا نسيت مع إني كنت فاكر من شوية!!!! الله يخرب بيتكوا,نسيتوني أنا مين!!
-هاقول يا عم نجيب...بس أنا مش عارف كل حاجة
-ومدام مش عارف يا ابني بتكتب ليه؟...لما تعرف كل حاجة ابقي اكتب...شكلك مستقَل بيّا!
-العفو يا أستاذنا أنا معرفش كل حاجة عنك صحيح,لكن اللي اعرفه يخليني أقدّر مين هو نجيب سرور.
لم يجاوبني إلا بنظرة خالية من أي معني,وأشاح بيده أن اتركني الآن وافعل ما يحلو لك...وكما تري لم أغضب من لهجته الحادة!
هل تلك السلالة(السرورية)كُتِّبَ عليها العذاب,بداية من الأب محمد سرور إلي الإبن نجيب سرور؟..قد لا نفهم حياة نجيب قبل أن نفهم حياة والده.

فلاح يهوي الشعر والأدب يتوجه في العشرين من عمره إلي مسرح رمسيس,حاملاً مسرحية شعرية(يوسف وزليخة),آملاً أن تعرضها الفرقة,ولكن طموح الشباب وأمانيه,تصطدم بسؤال لم يجد له رداً:
"هات لي مسرحية عنوانها ريان يا فجل,بس عليها اسم كاتب معروف وأنا أقدمها..إنما مسرحيتك..أواجه بيها الجمهور ازاي؟أقول له تأليف مين؟اسمك إيه؟"
وبذلك تنتهي حياة فنية,قبل أن تبدأ.

وقد حكي الأب لإبنه مراراً تلك التجربة,أما الحادثة الأخري في حياة والده فقد شاهدها بعينيه,وسجّلها شعراً بعد ذلك في قصيدة الحذاء....بعد قراءة القصيدة لا يمكن إضافة شرح أو تعليق:
أنا ابن الشقاء
ربيب(الزريبة والمصطبة)
وفي قريتي كلهم أشقياء
وفي قريتي(عمدة)كالإله
يحيط بأعناقنا كالقدر
بأرزاقنا
بما تحتنا من حقول حبالي
يلدن الحياة
وذاك المساء
أتانا الخفير ونادي أبي
بأمر الإله!...ولبي أبي
وأبهجني أن يُقال الإله
تنازل ليدعو أبي!
تبعت خطاه بخطو الأوز
فخوراً أتيه من الكبرياء
أليس كليم الإله أبي
كموسي..وإن لم يجئه الخفير
وإن لم يكن مثله بالنبي
وما الفرق؟..لا فرق عند الصبي!
وبينما أسير وألقي الصغار أقول"اسمعوا..
أبي يا عيال دعاه الإله"
وتنطق أعينهم بالحسد
وقصر هنالك فوق العيون ذهبنا إليه
يقولون..في مأتم شيدوه
ومن دم آبائنا و الجدود وأشلائهم
فموت يطوف بكل الرءوس
وذعريخيم فوق المقل
وخيل تدوس علي الزاحفين
وتزرع أرجلها في الجثث
وجَدَّاتنا في ليالي الشتاء
تحدثنا عن سنين عجاف
عن الآكلين لحوم الكلاب
ولحم الحمير..ولحم القطط
من اليأس..والكفر والمسغبة
"ويوسف أين؟"..ومات الرجاء
وضل الدعاء طريق السماء
وهنلك قام قصر الإله
يكاد ينام علي قريتي
ويكتم كالطود أنفاسها
ذهبنا إليه
فلما وصلنا..أردت الدخول
فمد الخفير يداً من حديد
وألصقني عند باب الرواق
وقفت أزف أبي بالنظر
فألقي السلام
ولم يأخذ الجالسون السلام!!
رأيت..أأنسي؟
رأيت الإله يقوم فيخلع ذاك الحذاء
وينهال كالسيل فوق أبي!!
أهذا..أبي؟
وكم كنت أختال بين الصغار
بأن أبي فارع"كالملك"
أيغدو لعيني بهذا القصر؟!
و كنت أخشاه في حُبِّيَهْ
وأخشي إذا قام أن أقعدا
وأخشي إذا نام أن أهمسا
وأمي تصب علي قدميه بإبريقها
وتمسح رجليه عند المساء
وتلثم كفيه من حبها
وتنفض نعليه في صمتها
وتخشي عليه نسيم الربيع!
أهذا أبي؟؟
ونحن العيال..لنا عادة..
نقول إذا أعجزتنا الأمور"أبي يستطيع!"
فيصعد للنخلة العالية
ويخدش بالظفر وجه السما
ويغلب بالكف عزم الأسد
ويصنع ما شاء من معجزات!
أهذا..أبي
يُسام كأن لم يكن بالرجل
وعدت أسير علي أضلعي
علي أدمعي..وأبثُّ الجُدُرْ
"لماذا؟لماذا؟"
أهلت السؤال علي أُمِّيَهْ
وأمطرت في حجرها دَمْعِيهْ
ولكنها أجهشت باكية
"لماذا أبي؟" وكان أبي صامتاً في ذهول
يعلق عينيه بالزاوية
وجدي الضرير
قعيد الحصير
تحسسني وتولي الجواب:
"بني..كذا يفعل الأغنياء بكل القري"
كرهت الإله..
وأصبح كل إله لدي بغيض الصعر
تعلمت من يومها ثورتي
ورحت أسير مع القافية
علي دربها المدلهمِّ الطويل
لنقلي الصباح لنلقي الصباح!
وهكذا كان محمد سرور والد نجيب سرور.

ولكن نجيب قاسي في الحياة,أكثر من والده,كان من النوع الذي لا يدفن وجهه في الرمال,بل يواجه المشكلة,وإذا وجدها صغيرة يضخّمها لتكسره بعد ذلك!شخصية بالغة التفرد في الحياة...لن أخوض الآن في تفاصيل حياته الدامية.
يكفي أن أتذكره حافياً سكراناً في شوراع القاهرة,يحاول بيع إبنه كي لا يجوع,محجوزاً في مستشفي المجانين,يسكن مع أسرته في مسكن ضيق مع بعض الطلبة,تائهاً في موسكو لا يملك ثمن مكالمة,مضروباً من الشرطة السوفييتية....يكفي ذلك لن أكمل؛حتي لا تطفر الدموع من عيني!

إذا أردت أن أطلق العنان لكل ما أريد قوله,ستكون رواية حول نجيب سرور.....مسرحية في العشرين ورواية في العشرين...ما سر العشرين...ولماذا تختلف النهايات عن البدايات؟!
-رواية إيه...يا أبو رواية!!!
لقد قفز نجيب في خيالي مرة أخري.
-لما تعرف تكتب الأول ابقي قول روايات براحتك!

لماذا يبدو دوماً في خيالي حاداً؟ما أعرفه أن صديقه أمل دنقل هو من كان بالفعل حاداً,يمارس أسلوب الحدة علي كل من حوله.لكن نجيب سرور..لا..


أجل...حياة نجيب سرور لا يمكن إجمالها إلا في رواية,أما المتفرقات والأشياء الهامشية الأخري,قد تضرذكراه ولا تنفعها؛لذلك لابد أن أتوقف الآن,وأردد آسفاً في ذكراه الثمانين مطلع قصيدته الدرامية(لزوم ما يلزم)

قد آن يا كيخوت للقلب الجريح
أن يستريح
فاحفر هنا قبراً ونم
وانقش علي الصخر الأصم:
"يا نابشاً قبري حنانك,ها هنا قلبٌ ينام,
لا فرق من عام ينام أو ألف عام,
هذي العظام حصاد أيامي فرفقاً بالعظام."
أنا لا أحسب بين فرسان الزمان
إن عد فرسان الزمان
لكن قلبي دوماً كان قلب فارس
كره المنافق والجبان
مقدار ما عشق الحقيقة
قولوا ل"دولسين" الجميلة...
"أخطاب"...قريتي الحبيبة:
"هو لم يمت بطلاً ولكن مات كالفرسان بحثاً عن بطولة..
لم يلق في طول الطريق سوي اللصوص,
حتي الذين ينددون كما الضمائر باللصوص
فرسان هذا العصر هم بعض اللصوص!"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق