الثلاثاء، 9 أبريل 2024

مصر شريان تعايش عالمي

 

مصر شريان تعايش عالمي

 

تتوسط مصر خريطة العالم كميزان للجغرافيا وراية للتاريخ، جسدها في أفريقيا القارة الأم، ولها ذراع ممتد في آسيا، وعينيها علي أوروبا، وقدمها راسخة في محيطها العربي، ويمتد في القطر المصري قناة مائية لا مثيل لها في العالم، كجسر بحري بين الشرق والغرب، اسمها قناة السويس، ذلك الموقع الفريد جعل مصر مهد الحضارات، لينبلج منها فجر الإنسانية، ويغمر بنوره أكابر الفلاسفة والفنانين المنكبين علي دراسة الإنتاج الغزير لوادي النيل المتشعب في كل المجالات.

ذلك الموقع المتوسط جعل مصر بوتقة وملاذاً لكل الأديان والأجناس منذ الأزل، وهكذا تم صياغة الشخصية المصرية علي نمط يسمح بالتعايش مع الجميع دون تفرقة، وهنا أقول تعايش لا تسامح، فكلمة تسامح توحي أن هناك من هو علي حق والآخر علي باطل، أو أن فرداً يتفضل علي بالمسامحة، كلا إننا في حاجة لتعايش مشترك علي قدم المساواة.

في عالمنا المضطرب المعاصر موجات من التعصب يتم بثها من خلال عشرات الوسائل بصورة يومية، ناتجة عن صناعة الكراهية ليستفيد سادة الحروب وسماسرة النزاعات، وللأسف تأثرت مصر برياحها المسمومة، ما يجعل نشر ثقافة التعايش مسألة مصيرية لا غني عنها، ولتكن البداية من الطفولة، بتحسين أساليب التعليم واستعادة المدرسة دورها التربوي والعلمي، كمؤسسة لها الدور الأساسي في تشكيل الشخصية الوطنية، وليضاف للمناهج مادة جديدة، وليكن اسمها"روحنا واحدة" يتعلم خلالها الطفل، أن جميع بني البشر سواء، لا اللون والجنس ولا الثروة ولا الدين يجعل الإنسان غريباً عن أخيه، بل كل واحد منهما يكمل الآخر ويمنحه مايفتقده، فكلنا لدينا نفس القلب الإنساني الراغب بالاتصال بالسماء، وكل مجموعة اتخذت طريقاً يناسب تكوينها التاريخي، وكلهم مأمورين بالرحمة والعدالة، ولو كان كل البشر أغنياء لتوقف العمل في كل مكان ولخرب العمران، ولو كانوا كلهم عباقرة لانشغلوا بعلوم الذرة والفضاء، ولافتقدت البيئة ملائكتها الحارسين في ثياب عمال النظافة، الذين يعملون في الظل لحماية أرواحنا من الأوبئة الفتاكة، ويتعلم الطفل أيضاً أن الرجل لا يتفوق علي المرأة ولا المرأة لها فضل علي الرجل، إسكاتاً لكل الدعاوي المتعصبة من الطرفين لجعلهما في حالة من العداء المستمر، فالذكر والأنثي يتحدان لإعمار الأرض ولتخفيف حمول الحياة علي بعضهما، وليس من مصلحتهما المنافسة بل الانسجام والتناغم.

ومع ازدياد أعداد ضيوف مصر الذين وجدوا فيها الحماية والأمن من الصراعات المشتعلة في المنطقة العربية منذ سنوات، بسبب غياب ثقافة العيش المشترك ما ترتب عليه معاناتنا الجمة الآن، تتأكد أهمية تلك المادة المقترحة.

وبالمثل تعمل أجهزة الإعلام بما لها من تأثير عارم في النفوس، علي ابتكار برامج وأعمال فنية تبث رسائل تمتلئ بالمودة وإشاعة روح الوحدة بين الجميع، بدلاً من رسائل العنف والكراهية والتنمر علي مدار الساعة، ومن خلال القوة الناعمة المصرية يزداد وعي المواطن بإنسانيته، وبالتالي سيزداد إحساسه بمن حوله وينظر إلي الناس باعتبارهم شركاء له في الحياة، لا أعداء ومنافسين كما يتم شحن النفوس وملء الأسماع بعبارات تمجد القوة الباطشة، والانتقام الأعمي والتقليل من شأن الآخرين، فيمكن لفيلم واحد أو عمل تليفزيوني أن يغيرا ما يعجز عنه ألف خطيب وواعظ، لأن الفنون تخاطب اللاوعي الإنساني وتتسلل إلي روحه فتسكنها للأبد، لتقيم إذن في أرواحنا بأثر طيب يغير سلوكنا للأفضل، ونحن في مرحلة تحتاج لصناع الميديا أكثر من أي وقت مضي، لتراجع قيمة الكلمة المكتوبة لعوامل عدة، وعزوف الشعب عن القراءة الجادة الحقيقية المثيرة للتفكير والتغيير، بسبب ضعف الأدباء في المقام الأول، فأصبحت الشاشات المحيطة بنا من كل جانب مصدراً للمعرفة والمتعة في نفس الوقت، بعد الثورة التكنولوجية الخارقة التي جعلت الصورة وجمالياتها سيدة الثقافة المعاصرة.

وتطبيق خطة شاملة في المساجد والكنائس لإبراز عناصر الوفاق اللامعدودة من كل الجوانب بين الأديان، ونبذ التطرف والتعصب والتركيز علي الفضائل التي تحث المعتقدات السماوية وعلي رأسها المحبة والمساواة وبذل الخير لكل أبناء آدم، بالتزامن مع حملة ثقافية موسعة في الهيئات الثقافية المصرية، لمناقشة وشرح الأعمال الأدبية الكبري من كافة أنحاء العالم بمختلف اتجاهاتها الفكرية، وسنكتشف معها واحدية الأصل الإنساني والتشابه الذي يقارب التطابق بين الذهن البشري، لكن كل قسم جغرافي مغاير عن الآخر في التفاصيل، مع إعطاء مساحة واسعة للأعمال المؤسسة للثقافة العالمية ككتاب الخروج للنهار من مصر القديمة، والإلياذة اليونانية، والإنيادة الرومانية، والفيد الهندية والأفستا الفارسية.

بتلك الخطوات يزداد وعي المصريين بأهمية الترابط والتلاحم بين جميع أفراد المجتمع، لمواجهة تحديات معقدة غير مسبوقة، علي المدي القريب والبعيد، ولاسبيل لاجتيازها إلا باتحاد كل من تظلهم سمائها، ويقتاتون من خيرها تسري في عروقهم مياه النيل النيل، وباجتهاد الجميع للتقارب والتفاهم، سيكون الأمرة متعباً ومكلفاً، لكن ثمن التنافر والتشاحن والكراهية لا يمكن لأي مجتمع أن يحتمله...فلنزدهر سوياً أو نذبل فرادي.

 

الثلاثاء، 2 أبريل 2024

الملهاة الفلسطينية....النكبة وماقبلها

 

 

 

الملهاة الفلسطينية....النكبة وماقبلها

 

١-ظاهر العمر... رمز القومية الفلسطينية

 

 تأسست الحركة الصهيونية علي أساس العديد من الشعارات التي أطلقها تيودور هرتزل وحاييم وايزمان وغيرهما من مؤسسي الكيان الصهيوني علي أرض العرب، ومن بين تلك الشعارات الدعائية الصاخبة التي أصمّت العقول والضمائر، الشعار الشهير الذي صكه الكاتب الإنجليزي يسرائيل زنجويل) ١٨٦٤-١٩٢٦(وهو روائي يهودي وأحد أعوان هرتزل، تزعم النشاط الصهيوني في بريطانيا، حيث قام بتأسيس الاتحاد الإقليمي الصهيوني، تدور مؤلفاته حول الواقع اليهودي، مثل"حالمو الجيتو، أطفال الجيتو، مآسي الجيتو" وقد لقي هذا الشعار"أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" صدي واسع في بداية الهجرة اليهودية لفلسطين، وصدق العديد من المهاجرين أن فلسطين أرض خالية لا يسكنها أحد، وقد صدم البعض منهم حين وصولهم ورؤيتهم للشعب الفلسطيني العريق وقرر العودة من حيث جاء! وقد أشار حاييم وايزمان(١٨٧٤-١٩٥٢)الرجل الثاني في تاريخ الحركة الصهيونية بعد هرتزل،إلي فكرة خلو أرض فلسطين، حينما قال في خطاب له عام ١٩١٤"في مراحلها المبكرة كانت الصهيونية كما تصورها روادها، حركة تعتمد كلياً علي عوامل ميكانيكية: ثمة بلد صدف أن اسمه فلسطين، وهو بلد بلا شعب، وثمة من ناحية أخري شعب يهودي، وهو لا يملك بلداً، إذاً لا يبقي سوي وضع الفص في الخاتم وجمع الشعب والأرض، من هنا يجب إقناع أصحاب الأرض"الأتراك" وحملهم علي الإقرار بأن هذا الزواج ليس ملائماً للشعب اليهودي وللبلد فحسب، بل ملائم لهم أيضاً"، وبعد حصول الصهاينة علي وعد بلفور ١٩١٧،سأله آرثر روبين رئيس دائرة الاستيطان في الوكالة اليهودية، عن خطته بالنسبة للفلسطينيين، فأجاب قال لنا البريطانيون أن هناك بضع مئات من الزنوج" كوشيم"، وأنهم بلا قيمة"

لقد تم التعتيم علي التاريخ الفلسطيني، وكفاح شعبه الطويل منذ عهد الكنعانيين الذين استوطنوها عام٢٥٠٠ق.م، وإلغاء اسمها من سجلات الذاكرة، في تجاهل متعمد للنقوش التاريخية التي مازالت تحتفظ باسمها كما نعرفه اليوم" بالستين" أو فلسطين نسبة إلي قبيلة بالست اليونانية المهاجرة مت جزيرة كريت ١٥٠٠ق.م ثم انسحب الجزء علي الكل حتي أصبحت المنطقة الواقعة بين نهر الأردن والبحر المتوسط تسمي فلسطين، ذكرها المؤرخ اليوناني هيرودوت، وأرسطو الفيلسوف الكبير الذي لقبه العرب بالمعلم الأول، وميزها ككيان مستقل الجغرافي اليوناني بطليموس، بل إن التوراة نفسها تعرفها بنفس الاسم، ففي سفر التكوين نقرأ" وتغرب إبراهيم في أرض الفلسطينيين أياماً كثيرة".

ومن بين الأسماء التي يريد الاحتلال الإسرائيلي حذفها من الذاكرة الفلسطينية والعربية، اسم"ظاهر العمر" ورغم إن العلاقة بينهما غير مباشرة، إلا إنها حساسة أكثر مما نتصور، فهو الرجل القادر علي الإطاحة بكل الدعاية الإسرائيلية دون أن يستطيع أحد الجدال، فقد حاول في القرن الثامن عشر إقامة دولة فلسطينية مستقلة عن الحكم العثماني، وكيف أن تقوم دولة دون شعب وثقافة وعادات ودين وجغرافيا ومدن وسهول ومراعي وصناعة وتجارة وتعليم وشعور جارف بالانتماء؟! وفي سيرته صور اجتماعية وسياسية وثقافية تموج بأحداث هامة أثرت علي المنطقة، أي أن النتيجة معلنة وواضحة بأن فلسطين لها شعب متجذر فيها وعاش في الفترة التي سبقت هجرة اليهود لها ولم تكن في يوم من الأيام"ارض بلا شعب"، كما أن اليهود لم يكونوا يوماً شعباً بلا أرض، تتكسر عليها الدعاية الصهيونية، المرتكزة علي أن أرض فلسطين الضائعة بقيت لقرون في انتظار اليهود ليعودوا لها ويسكنون في ربوعها، وبأن اليهود جاءوا لتلك الأرض الهاربة من التاريخ والجغرافيا ليؤسسوا منشآت مدنية حضارية، كمثيلتها في البلدان المتقدمة.

تبدأ ملحمة" الملهاة الفلسطينية" للأديب الأردني فلسطيني الأصل إبراهيم نصر الله-مرتبة حسب الأحداث-برواية قناديل" ملك الجليل"، التي تستعرض سيرة حياة ظاهر العمر بصورة أدبية، تتراوح بين الخيال والسند التاريخي، وقد وزانهما نصر الله بميزان الذهب، فالقارئ  يستعيد الوقلئع التاريخية الموثقة، وفي نفس الوقت يندمج بكل مشاعره مع الصور الفنية والروائية التي يقدمها نصر الله في نسيج الأحداث، التي يستهلها بموت عمر الزيداني والد ظاهر العمر، وتمتد لحوالي ٥٥٠صفحة متتبعة سيرة ظاهر العمر الزيداني بين القرنين الثامن عشر والثامن عشر، ومن خلال أسرة ظاهر يمسك المؤلف خيط التاريخ الفلسطيني، بإعلان وجود تلك البلاد كوحدة متميزة في المحيط العربي لها كيانها وتاريخها الخاص، فيغوص نصر الله بقلمه الذي درب علي الشعر طويلاً قبل أن يدخل لمملكة الرواية في تفاصيل الحياة الفلسطينية بتلك الحقبة، فيبرز علي الصراعات الدرامية علي عدة مستويات:

١-الصراع بين العرب والدولة العثمانية.

٢-الصراع بين العرب وبعضهم.

٣-الصراع بين الأسرة الواحدة.

الصراع الأخير هو الأكثر إثارة، ويفرد نصر الله مساحة واسعة للعلاقات الأسرية، فالأسرة هي التي تصوغ الفرد وتجعل منه شخصاً عظيماً أو كياناً محطماً يتواري خلف الأقنعة المزيفة، فعقب موت الأب يظهر سعد الشقيق الأكبر لظاهر وإخوته، ويبرز دور الأب في حمايتهم من الدولة العثمانية وجورها، ورغبة الأبناء في التنصل من مهمة الالتزام التي كان يقوم بها والدهم، وإلقاء العبء علي ظاهر أصغرهم، كي يتسني لهم الحكم من خلاله والتحكم فيه ليغدو مجرد ستارة يعملون من خلالها في مأمن عن رقباء العثمانلية، وبتقنية الفلاش باك الذي يستخدمه نصر الله بمهارة فنية تجئ في موضعها المناسب، حيث ينقلنا لزمن مضي في لمحة، وبلمحة أخري يستبق الأحداث بالفلاش فوروارد ليبحر بنا في زمن مستقبلي، يسرد ظروف ولادة ظاهرة ومحاولة أبيه الدون كيشوتية درء الموت عنه ومواجهته بسيفه كي يحمي ابنه اليتيم، ثم يرضع من لبن الفرسة حليمة الاي تندرج علاقته بها تحت بند الغرائبية، ويعيش حتي نهاية عمره في كنف أمه الثانية نجمة، ويسرد فصلاً هاماً ومحورياً في حياة ظاهر ودوره في حرب البعنة، أولي التجارب التي شكلته وجعلته يفهم متي يلجأ للحرب ومتي يسعي للسلام، فاشعال القناديل لاختيار من ينوب عن والدهم ويكون أول قنديل منطفئ هو من تقع عليه التبعة، وستظل القناديل ونورها وعتمتها تحتل مكاناً بارزاً في الرواية، ويحيا تحت شعلتها الظاهر وأسرته وشعبه، فجاء عنوان الرواية من صميم عالمها، ونلتقي ببشر الصديق الطيب الذي كان أقرب للظاهر من أشقائه، ونلمس تأثير موت الشيخ حسين في حرب البعنة وفتي القافلة المقتول، في نفس الظاهر، ودورهم في دفع ظاهر لاستتباب الأمان الكامل في البلاد، والأمن يتطاب الشهامة والتضحية وهو مالن يضن به ظاهر حي ينقذ فتاة تتعرض للاغتصاب ويحقق العدل بمهاجمة المتسلمين الظلمة ويخلص البلاد منهم، ويتجلي  كملجأ لكل مظلوم في حادثة الشاويش الملتزم الطامع في زوجة جريس، ويبني أسوار طبرية وفي كل ذلك نري النكتة حاضرة حتي قرب الختام، فالشعب الشامي كالشعب المصري يحب النكتة وكلما غلبته همومه دفعها بقفشة أو عبارة تحمل مفارقة تروح عن قلبه عناء الهموم، ويستمر الراوي مبرزاً عدل الظاهر وتسامحه الديني مع المخالفين له في المذهب والديانة فيعقد حلفاً مع المتاولة الشيعة ويعين إبراهيم الصباغ وزيره وطبيبه وهو من أهل الديانة المسيحية، ويسجد أمام كنيسة البشارة متعهداً أن تكون زيت قناديلها من ماله مدي الحياة إذا كتب له النصر، ويلقب بملك الجليل من أحد الرهبان الفىنسيسكان لنجاحه في الصلح بين فرقتين مسحيتين، ولا يغفل جهوده الاقتصادية  التي حولت عكا من مجرد مدينة ساحلية متواضعة، لقلعة عسكرية محكمة ومركزاً لتجارة القطن بين فلسطين وأوروبا حيث احتكر الظاهر تجارة القطن والزيتون والزيوت مما راكم من ثروته وقوي وضعه المالي، وجعله قادراً علي شراء السلاح، حينما وقع مع نائب القنصل الفرنسي جوزيف بلانك اتفاقية تنص أن القطن مقابل السلاح، وبعد خوض الكثير من الحروب والصراعات داخل فلسطين وخارجها يصل ببلاده لضفة المنعة وبر الأمان، حين يرسل فتاة جميلة مغطاة بالذهب، فلا يتعرض لها احد عدا بسؤال واحد، فيقتل من اعترضها ويعلن أن ذلك جزاء كل من يهدد عابر السبيل في طرق فلسطين، ونري في أكثر من موقف إصراره الصلب علي كرامة الشعب الفلسطيني وعمله علي إعلائها، ويطرح مفهوماً مغايراً عميقاً عن البطولة" لقد بلغني، أخواتي وإخوتي، أن هناك من يقول:ما يحدث لنا سببه أن ظاهر لا يريد أن يكون أقل من بطل!

إن أسوأ فكرة خطرت للإنسان: أن يكون بطلاً في الحرب؛ وهناك ألف مكان آخر يمكن أن يكون فيها بطلاً حقيقياً. ولكن هذه الحرب فرضت علينا، ولم نخضها لكي نصبح أبطالاً، بل خضناها لكي نكون بشراً، كرمهم سبحانه وتعالي حين قال) ولقد كرمنا بني آدم) صدق الله العظيم. نحن لا نريد أكثر من أن نكون بشراً. أما ما أحلم به، فهو أن تكونوا أبطالاً كلكم بعد هذا الحصار. فالبطولة في أن تبنوا بلادكم في أمان، وألا تخافوا علي اطفالكم، لأنهم محاطون بالأمان. سيصبح كل كل رجل بطلاً حين يتجول في الطرقات كما شاء دون أن يعترض طريقه أحد، أو ينال من كرامته أحد، أو يقيد حريته أحد، وتكون البطولة حين تسير امرأة بمفردها فيهابها الجميع، لأنها بطلة علي جانبيها أطياف مئات البطلات والأبطال. أريد شعباً كاملاً من الأبطال، لا شعباً من الخائفين بين هذين البحرين:بحر الجليل وبحر عكا. البطولة الحقيقية في أن تكونوا آمنين إلي ذلك الحد الذي لا تحتاجون فيه لأي بطولة أخري" إنه الحلم الفلسطيني والعربي الضائع في أن يكون الشعب هو البطل، المواطن العادي حينما يحيا مطمئن علي نفسه وماله يشعر بإحساس البطولة، قوته ليست في قدرته علي خوض المعارك بل في تجنبها، تلك الأمنية سيقضي عليها الاحتلال الإسرائيلي لأرض ملك الجليل، وقد فعل ذلك الظاهر لفترة زمنية، فلم يكن رجل الأحلام المنقطع عن الواقع، بل حقق لشعبه ماتمناه له كما يحدثنا من أرخوا لحياته كعبود الصباغ في"الروض الزاهر في تاريخ ظاهر"، و"تاريخ الشيخ ظاهر العمر الزيداني حاكم عكا وبلاد صفد"، عمم الأمان في ربوع الوطن الفلسطيني، بالمساواة والعدل فالأمان تحت حكم السلاح ليس أماناً بل مجرد حالة من الخوف والترقب سرعان ماتذوي وتتحول لهياج واضطرابات حين يشيخ حامل السلاح أو ترتخي قبضته، أما الأمان الحقيقي فهو أن يحيا الجميع دون أحقاد مكبوتة أو مشاعر ساخطة تنتظر الفوران لأوهي سبب، كيف حقق ظاهر تلك التجربة المصيرية في التاريخ الفلسطيني، ويورد الراوي علي لسانه عبارات يخاطب بها أخيه سعد حين غضب من تحالفه مع الشيعة المتاولة بحجة أن ذلك يطعن في إيمان أهل السنة، فإذا بطاهر يعلمه ويعلم العرب الغارقين في الصراع الطائفي والتناحر الديني معني "المواطنة" الذي أدركه بفطرته الوطنية السليمة التي أهلته لفهم طبيعة الوطنية وبناء دولة أساساها المساواة بين جميع الأفراد تعتمد علي الكفاءة والإخلاص قبل أي شئ آخر، تتمركز علي قدرة المواطن علي العطاء والبناء وليس ذهبه أو مذهبه" لن أسمح لك بأن تقول كلمة واحدة أكثر مما قلت يا سعد! أي إيمان هذا الذي تؤلمه الرحمة وحقن الدماء وصون كرامة الناس؟! يا سعد أنا لا يعنيني ما تؤمن به، يعنيني ما الذي يمكن أن تفعله بهذا الإيمان: تبني أم تهدم، تظلم أم تعدل، تخلص أم تخون، تسلب أم تمنح، تحب أم تكره، تصدق أم تكذب، تحرر أم تستعبد، تزرع أم تقلع، تنشر الأمن أم تطلق وحش الخوف يلتهم قلوب الناس؟ يا سعد، هؤلاء الذين يحيكون لنا المكائد هم من مذهبك ومذهبي، هؤلاء الذين يسرقون عرق جباهنا ويذلون أهلنا من مذهبك ومذهبي. وتقول لي أن علي ألا أحالف بلاد بشارة والامير ناصيف، لماذا: لأننا مختلفون في المذهب؟ وهل أهل السنة مجتمعون علي مذهب واحد؟! أوليس لدينا أربعة مذاهب، لم لا يكون الشيعة مذهباً خامساً، مادمنا جميعاً نؤمن برب واحد ونبي واحد وقبلة واحدة وقرآن واحد، وشهادة أن لا إله إلا الله؟ والآن يجمعنا هدف واحد هو محاربة عدو واحد....

والله يا سعد لو وقف بباب قلبي رجلان، رجل عادل من أي مذهب أو ملة أودين، ومسلم ظالم لأسكنت الأول قلبي طردت الثاني

لا يا سعد لن يكون الذي أمامك ظاهر العمر، لو فكرت كما أفكر، وإلا لحولت السنة إلي دين والشيعة إلي دين، وقسمت الإسلام، ومعاذ الله أن أفعل هذا. فانتبه لنفسك ولروحك يا سعد، فقد قيل دائماً للإيمان الأعمي عيون شريرة".

إن تلك بالفعل هي جوهر شخصية ظاهر العمر التاريخية، وقد نطقت روائياً علي يد إبراهيم نثر الله، ليستعيد لنا صفحة مجيدة من التاريخ الفلسطيني بطلها ظاهر العمر وانتهت بخيانة قائد قواته أحمد الدنكزلي كما خان من قبل محمد بك أبو الدهب سيده علي بك الكبير، وقد اتفق الظاهر وعلي بك علي مناوئة الدولة العثمانية ومحاولة الاستقلال بمصر والشام والاتحاد بالجناحين العربيين تحت راية واحدة، وهو الخطر الذي طالما هدد مصالح القوي الاستعمارية في المنطقة العربية علي مر العصور مهما تغيرت أسماء تلك الدول، فمصر والشام لو اتحدتا لتغير وجه التاريخ ونبتت في المنطقة العربية قوة جبارة لن يقف أمامها أي مانع للسيطرة علي مقدراتها، وسترتقي بسرعة هائلة، وهو ما صرح به اللورد بالمرستون وزير الخارجية البريطانية عام ١٨٤٠حين قال" ستكون فلسطين اليهودية سداً في وجه أي محاولات شريرة لإنشاء دولة عربية تضم مصر والشام، وتهدد مصالحنا من جديد" إن تجربة ظاهر العمر وعلي بك الكبير تطل من بين حروف تلك العبارة... وبالخيانة ينتهي حلم الظاهر ويقتل عام١٧٧٥  علي يد المحارب الذي قربه منه ونشهد تطور العلاقة والشكوك بينهما في النصف الثاني من الرواية، يتلاشي الأمل في إنشاء كيان سياسي واقتصادي وعسكري يضم عكا وحيفا والجليل وبلاد صفد وجبل عامل وبلاد أربد وعجلون وأجزاء من سوريا وحوران وصيدا وغيرهم من بلاد الشام-المكان بطل من أبطال الرواية-بعد أن ظل يحارب حتي بلوغه٨٥عاماً، مكافحاً في سبيل سلامة شعبه وكرامتهم عالماً أنه يحيا في عالم بلا رحمة ولا شفقة تجاه الضعيف، كما شاهد في صغره ما حدث في حرب البعنة، فعمل علي إقامة دنيا جديدة يسودها العطف والأمان وللمرأة فيها كرمز للعطاء والحنان دور إيجابي، لأنه يعرف جيداً معني ما قاله"لم يخلق الله وحشاً كالإنسان ولم يخلق الإنسان وحشاً كالحرب".

قسم الراوي عمله ألي أربع أجزاء و١٣٦عنواناً فرعياً، ليحيك لنا حكاية لا تنسي، عن فلسطين التي غطست بين أكاذيب الدعاية الصهيونية، ولم يكن هو نفسه علي دراية بها حتي مرحلة متأخرة من حياته كما يذكر في مقدمة الرواية، فلسطين قوية وراسخة.

 تشتت شمل أولاده بعده ولقي أحمد الدنكزلي جزاء خيانته بعد وقت قصير، أما نجمة المرأة التي كانت شقيقة روح ظاهر فقد طافت بأماكن عدة "إلي أن استقرت آخر الأمر في قرية الهادية" والهادية هي القرية التي سيتحول فيها الحلم الفلسطيني لكابوس مرعب في الرواية التالية.

٢-زمن الخيول البيضاء... الدم والتراب

الأديب مخلوق فريد من مخلوقات الله، تمر عليه العبارة العادية فيحولها إلي موضوع طويل ومعقد ومتشابك،أو يعايش موقفاً ما فيصوغ منه ملحمة ينسج شباكها بمهارة وحرفية، أو يري شخصاً ما لا يعلق بالذاكرة وتقتحمه العيون لامبالية، فيحيك له حياة وذكريات يستخلص منهما العبر، وهكذا تفجرت ينابيع الملهاة الفلسطينية من قلب وعقل إبراهيم نصر الله المولود في فلسطين المعايش للنكبة منذ بدايتها، بسبب عبارة قالها بن جوريون" سيموت كبارهم وينسي صغارهم" وهي تعبر عن فلسفة إسرائيل تجاه الذاكرة العربية التي يصيبها الوهن والنسيان سريعاً بفعل عوامل عديدة، أهمهما ضعف الأنظمة التعليمية العاجزة عن تربية شخصية مدركة لأبعادها الوطنية، وعارفة بمنحنيات بلادها التاريخية.

يبدأ مشروعه بملحمة" زمن الخيول البيضاء"وتظل فكرتها تتفرع حتي تتحول إلي ١٢عملاً! كأن نصر الله يعتبر نفسه- عن حق- المؤرخ الأدبي الرسمي للقضية الفلسطينية، فيأحذ علي عاتقه تسجيل سنوات النكبة وماتلاها من تشريد.

هناك روايات عديدة نستشف منها" ماذا حدث"، أما ملحمة زمن الخيول البيضاء" فنعرف منها ماذا حدث وكيف حدث، إنها أحد المفاتيح الهامة لفهم القضية الفلسطينية من جذورها، وفي نفس للوقت رد مضاد علي الأدب الصهيوني، فصورة الفلسطينيين في الروايات الصهيونية تلصق بهم زوراً الجبن والهمجية والانحلال والغباء والنذالة، فقد كان للحركة الصهيونية سلاحان استخدمتهما لتمهيد أرض فلسطين لتوضع تحت أقدامهم، ولاكتساب معركة الرأي العام العالمي، هما سلاح السياسة والأدب، بل إن غسان كنفاني الأديب الفلسطيني يعتبر أن الصهيونية الأدبية سبقت الصهيونية السياسية وإنها هي من استولدتها، وهو قول صائب لحد بعيد فالروايات التي تناقش حال اليهود ومشكلاتهم وحقهم في العودة لفلسطين، تسبق الدعوة الصهيونية الرسمية والنداء العلني ليهود العالم كي ينشئوا الدولة اليهودية في قلب بلاد العرب، فبالسينما والرواية حولت إسرائيل نفسها إلي ضحية عاجزة تعيش بين أنياب النازية تارة، وبين مخالب العرب تارة أخري، وجعلت التعاطف معها هو ميزان الإنسانية والعدالة في هذا العالم، وتجاهل كل ما تفعله من شرور وآثام ومجازر واجب علي أصحاب الضمائر الحرة، لأن صوت نواحها علي الهولوكست الذي ضخموه لدرجة تنافي خسائرهم الحقيقية فيه دوماً يصم الأذان عن صرخات غيرهم الحقيقية والصادقة، في أكبر عملية تزييف متبجح للتاريخ نشهد بعض فصولها حتي اليوم.

ولذلك تخشي إسرائيل سلاح الأدب والفن، لأنها تعرف مدي فعاليتهما وتأثيرهما السحري في النفوس، فلم تتوان عن قتل الأديب المناضل بالقلم والأفكار غسان كنفاني ١٩٧٢ببيروت بعد انفجار عبوة ناسفة وضعت في سيارته، وهو في السادسة والثلاثين من عمره استشهد علي إثرها مع لميس ابنة شقيقته ذات السابعة عشر في انفجار هز العاصمة اللبنانية، وأيضاً الفنان الفلسطيني ورسام الكاريكاتير ناجي العلي ١٩٨٧، والدبلوماسي والأديب الفلسطيني وائل زعيتر ١٩٧٢، والكاتب والشاعر ماجد أبو شرار في ١٩٨١،كل هؤلاء ضمن قائمة طويلة طالتها يد الموساد الإسرائيلي.

في النصف الأول من الروية، نندمج في الأحداث لدرجة إننا ننسي أن النكبة علي الطريق، تقف كوحش مرعب سيلتهم الجميع، فنحن في قرية"الهادية" قرية  متخيلة ترمز لفلسطين كلها، لها توائم في ريف مصر والأردن وسوريا ولبنان وبقية البقاع العربية، وقد كنت أحياناً تطل من ذاكرتي شخصيات رواية الأرض لعبد الرحمن الشرقاوي، وأعمال يوسف إدريس عن القرية  المصرية أثناء قراءتي، تبدأ الأحداث بظهور فرسة بيضاء ستسمي الحمامة، سيكون لها ولنسلها وللخيل عموماً حضور قوي في كافة أجزاء الرواية الثلاثة( الريح-التراب البشر) فهي فرس خالد و جزء من الماضي الفلسطيني الممتلئ بالأصالة والعز، وقد ضاعوا جميعاً من أرض فلسطين، وترتبط بفارسها ويرتبط فارسها بها ألي أن يصبحا كتلة واحدة، ويعلق علي ذلك محمود ابن الحاج خالد وقد لمس عمق الصلة بين الخيل والإنسان" لم أكن سوي واحد من عائلة كتبت الخيل أقدار رجالها".

 في تلك القرية نشهد علي حوادث الحب والتنافس علي الرئاسة، ويشير للصراع الفلسطيني الداخلي، الذي يصل لدرجة الخيانة والتعامل مع العدو، وحكايات وعادات الزواج، وعن ظلم الاحتلال التركي، ومشكلات الأبناء وتربيتهم، وتتوحش شخصية الهباب المتسلطة علي الأهالي، حتي ينهي سطوتها خالد الحاج محمود، وعام القحط ، وتظهر شخصية نجيب نصار شيخ الصحفيين الفلسطينيين وأحد أوائل المثقفين الذين حذروا من الهجمة الصهيونية علي بلاد العرب، ثم تظهر أجيال عديدة فيدخل الراديو والمقهي إلي القرية مع حضور القرن العشرين، ويذكر الفن المصري في أكثر من موضع، ومع هبوب الجراد علي الحقول، يحيلنا الرمز ذهنياً للعصابات الصهيونية وهجماتها المرتقبة، أما شخصية الضابط الإنجليزي إدوارد باترسون بكل مافيها من تناقضات فهي عنوان للعالم الإستعماري الغربي، وصورة من النفسية الإمبريالية للرجل الأبيض، ومن بداية ظهوره تتبلور مأساة الشعب الفلسطيني والأزمة الخفية أو التي يتم إخفائها عمداً، أن النكبة الفلسطينية كما ساهمت فيها الجيوش الإنجليزية والعصابات الصهيونية، ساهم فيه أيضاً خونة عرب وفلسطينيون تعاونوا مع الغزاة، كشخصية عبد اللطيف الحمدي وسليم بك الهاشمي، أما الكفاح والتضحية فكانا من نصيب أمثال خالد، وتصل المقاومة الفلسطينية إلي عنفوانها في ثورة ١٩٣٦،ويقدم لنا الراوي صورة حية ونابضة لهؤلاء الرجال الذين لم يرضخوا للمحتل الغاصب لا بالوعد ولا بالوعيد، ومع استشهاد الحاج خالد والاقتراب من يوم النكبة، تختفي الكواشين(الحجج والعقود) التي تثبت ملكية الفلاحين للأرض، وتتبدي المعادلة الفلسطينية في غاية الغموض والفوضي والتعقيد، حتي أن محمود ابن الحاج خالد، يرفض خروج مقالاته وكتاباته للعلن"لا أريد أن يعرفني أحد وكلما كنت مجهولاً أحس براحة أكبر، فلا أحد يسألني ولا أحد يشير إلي، ولا أحد يوقفني ليسألني ما رأيك في هذا الذي يدور تصوري أن يقترب مني أحدهم ويسألني: أستاذ محمود ما رأيك فيما يدور؟ أو إلي أين تسير الأمور في فلسطين باعتقادك؟ سأجن حينها، من يستطيع أن يحل معادلة أطرافها كل هؤلاء: الفلاحون الفلسطينيون، زعامتهم في المدن وزعاماتهم في الريف، الفقر الذي هناك في القري والغني الذي هنا في المدن، التفوق الصناعي الأوروبي الذي حمله اليهود معهم والتخلف في كل شئ الذي تركه الأتراك لأهل هذه البلاد. من يستطيع أن يحل معادلة فوضي عشرات الأحزاب هنا وارتباك أهدافها وتضاربها وصراعاتها التي لا تنتهي، ودقة تنظيم المنظمات اليهودية التي تصب في هدف واحد ووحيد احتلال فلسطين وطرد أهلها منها؟ من يستطيع أن يحل معادلة أطرافها: نحن والعرب والإنجليز واليهود؟!" والفقرة أوضح من شرحها أو التعليق عليها، وللأسف ماتزال تلك المعادلة لا تجد من يحلها بعد مرور حوالي ١٠٠عام علي جذور الصراع العربي الإسرائيلي، وتختتم الرواية بصورة قديمة متجددة من حرب ١٩٤٨،يتردد صداها الآن في حرب إسرائيل علي قطاع غزة ٢٠٢٤في نكبة ثانية يصاب بها العرب وتدمي لها قلوبهم في كل مكان" ظهرت غيوم عالية في السماء، انبثقت سيوف رعود جارحة ودوي رعدها كالصمم، وبدا كما لو أن الأرض قد غدت خارج الأرض، وفجأة تساقط مطر غزير باتوا علي يقين بأنه لن يتوقف أبداً، لكنه، وكما انهمر فجأة توقف فجأة، مخلفاً صمتاً عميقاً كأنه الموت.

بعد أحاديث يائسة ومناقشات لم تفض لشئ، بدأ الناس بجمع أشيائهم أمام بيوتهم، بانتطار يوم الرحيل. وجاء عدد آخر من مراقبي الهدنة لتنظيم خروج الناس.

-ستأتي سيارات الأمم المتحدة، وتنقل الجميع. عليكم مغادرة البيوت والانتظار علي طرف الشارع العام.

خمس ساعات مرت، لم تحضر أي سيارة نقل، ثم هبط الليل، حاولت أكثر من عائلة العودة لبيتها.

-هذا ممنوع!!

-ماهو الممنوع؟

-أن تعودوا لبيوتكم من جديد.

-ولكننا لا نستطيع المبيت هنا.

-ستأتي العربات في أي لحظة.

عادوا لأماكنهم. صرر ملابسهم تحيط بهم وبعض أكياس القمح التي أحسوا بأنهم سيكونون بحاجة إليها.

في الرابعة صباحاً، نزلت قطرة ماء، وفي لحظات قليلة انهمر مطر غزير أشد من ذلك المطر الذي مزق العربة قبل أيام.

حين أطل الصباح كانوا في أسوأ حالة يمكن أن يكون عليها بشر. مبتلون بالماء ومطعونون بالبرد وملوثون بالطين.

-سنعود إلي بيوتنا.

-لن يعود أحد.

نصبت خيام صغيرة، وتحولت أغطية إلي خيان، وراحت القذائف تتساقط علي العربة، حتي بات الناس يخشون التفكير في بيوتهم، فبمجرد أن كان أحدهم يقول:سأعود إلي بيتي. كانت قذيفة ما تسقط علي البيت وتدمره أو يقتلعه لغم من أساساته.

بدأت الهادية تصغر يوماً بعد يوم، تتلاشي أمام عيونهم وهم ينظرون إليها، وتحول الدير إلي سحابة من دخان من دخان، وعندها أدركوا أنهم يريدون محو القرية من الوجود.

بعد أحد عشر يوماً أشرقت شمس حارة، وظلت حرارتها تتصاعد علي مدي أربعة أيام حتي غدا حارقة تماماً. وغاب ليل وهبط ليل،

وغاب نهار

وهبط ليل

وليل وليل وليل وليل وليل وليل

وأطل نهار

التفتوا لأكياس القمح فوجدوا أن البذور قد تفتحت وشقت مسامات الخيش.

جمع الناس الحطب وبدأوا بتحميص حبوب القمح(القلية) التي لم يجدوا غيرها بين أيديهم. وبدا المشهد مرعباً في ظل صياح الصغار الذي لم يعد يتوقف.

-كانت الأسابيع التي عشناها علي جانبي الشارع أكثر قسوة من أيام الحصار صدقني.

حين وصلت العربات الكبيرة أخيراً عصر أحد الأيام، لم يكن باستطاعة الناس تسلقها، كان الانتظار قد أنهكهم تماماً.

بصعوبة عثرت سمية علي ساقيها التي لم تعد تحس بوجودهما، نهضت، انطلقت إلي تلك التلة، حيث قبر زوجها، أغمضت عينيها وفتحتها غير مصدقة ما تراه واندفعت تركض صوب الهادية.

لحقوا بها أعادوها..

-اتركوني. صرخت. ألا ترونها إنها هناك!!

-ما هي؟

-الحمامة، ألا ترونها. إنها هناك!!

-أين؟

-عند قبره، علي التل. إنها هناك ألا ترونها؟ اتركوني، أريد أن أراها، مرة واحدة فقط، أريد أن أعتذر لها. أن أقول لها سامحيني.اتركوني.

امسكوا بها، تفلت.

في النهاية لم يجدوا حلاً سوي حملها إلي الشاحنة.

هدأت فجأة،

التفت علي نفسها كما لو أنها صرة ثياب لا أحد يعرف صاحبها، صرة وجدت نفسها في شاحنة، شاحنة لا أحد يعرف إلي أين تمضي، أو أين ستقف.

بعد غروب الشمس بقليل تحركت الشاحنات،

فسمعوا صوت سمية قادماً من بئر عتمتها، كانت تغني:

عمي يا أبو فانوس

نور لي عالعتمة

خوفي الطريق يطول يابا

ويطول معك همي

ويطول معك همي

انحدرت شلالات الدمع علي وجه منيرة وأحفادها وعفاف وأولادها وحسين وأولاده وأم الفار، الذين كانوا قد تجمعوا في صندوق تلك الشاحنة البيضاء.

دوت عدة انفجارات، التفتوا، وإذا بالنار تلتهم عدداً من ببوت القرية. حدقت العزيزة التي كانت تبكي بصمت مسندة وجهها إلي الحافة الحديدية للصندوق.

كانت إحدي القنابل قد سقطت في بيت أبيها، اندلعت النار فيه وسقطت قنبلة أخري فاشتعل برج الحمام.

راحت العزيزة تراقب النار التي تتصاعد ملتهمة البرج ومافيه، وعندها رأت ذلك المشهد الذي لن تنساه أبداً.

كان الحمام يطير محترقاً، قاطعاً مسافات لم تفكر يوماً أن حماماً بأجنحة مشتعلة يمكن أن يبلغ نهايتها، وحينما راح يسقط في البساتين والكروم والسهول المحيطة كانت نار جديدة تشتعل. وحينما وصلت العربات إلي تلك النقطة العالية التي تتيح للناس مشاهدة الهادية للمرة الأخيرة، كانت ألسنة الحرائق تلتهم الجهات الأربع."

أوردت ذلك المقطع الطويل، لأنه صورة متكررة لمأساة الشعب الفلسطيني، الذي يعيش أهله أكبر محنة إنسانية في التاريخ المعاصر، إنه يصلح لوصف التشرد والانهيار في كافة جولات الصراع العربي الإسرائيلي، إنها فلسطين التي تتحلل وتتدمر يومياً، وبصورة غريبة وعجائبية يعاد بنائها من جديد وبصورة أقوي وأعمق في الوجدان الوطني، إن الحرائق تلتهمها كل يوم وحمامها تشتعل أجنحته منذ عام النكبة، وأهلها دوماً علي طرق الرحيل يملأهم الفزع والرعب يحمل كل واحد منهم علي كتفيه خيمته التي لا تقيه شيئاً، يفرون من مكان لمكان، وكأن قدر الفلسطيني، هو ذاته قدر ابن زريق البغدادي حين قال:

يكفيه من لوعة التشتيت أن له   من النوي كل يوم ما يروعه

ما آب من سفر إلا وأزعجه   رأي إلي سفر بالعزم يزمعه

كأنما هو في حل ومرتحل   موكل بفضاء الله يذرعه

تصفها الأديبة الفلسطينية سلمي الخضراء الجيوسي الملهاة الفلسطينية" إنها بحق الرواية التي كانت النكبة تنتظرها ولم تحظ بها من قبل. تأريخ دقيق غاية في الحساسية والتصوير المبدع للوضع الفلسطيني منذ زمن العثمانيين إلي سنة ١٩٤٨. كبيرة الأهمية لأنها تكشف بوضوح أسباب النكبة وملابساتها وظروفها الطاغية التي قادت شعبنا إلي عذاب مقيم. كما أنها تصل غاية التشويق الروائي المثير، بحيث أن القارئ لا يود تركها أبداً، إنها العمل الروائي المبدع الأهم الذي سوف يفسر عبر الفن الرفيع مأساة شعبنا وأسباب نكبته" ثم تضيف" كم سألني الكثير من الأجانب متي يظهر العمل الفلسطيني الذي يقدم لنا الإلياذة الفلسطينية؟ وهاهي الآن بين أيدينا".

لم تجانب سلمي الجيوسي الصواب ولم تبالغ في تقديرها العميق للرواية، فما أشبهها بالإلياذة حقاً! فكما عرفنا من إلياذة هوميروس تاريخ اليونان وأبطاله، وعشنا وقتاً ممتعاً بين سفن الآخيين و جدران طروادة، أدخلتنا زمن الخيول البيضاء باب التاريخ الفلسطيني من باب الأدب العظيم، في سبيل إبراز السردية الفلسطينية أمام العالم، بعدما امتلأت أسماعه وخيالاته بالسردية الصهيونية في روايات مثل دانيال وديروندا لجورج إليوت وقد بلغ من تأثير هذه الرواية وتقدير الإسرائيلين لتأييد الكاتبة للرؤية الصهيونية أن أطلقوا علي اسم شارع من أهم شوارع تل أبيب اسم المؤلفة، عقب قيام الدولة مباشرة، وإكسدوس لليون يورس، ورواية دافيد آلوري لرئيس الوزراء البريطاني بنيامين دزرائيلي، وغيرها من السرديات المفبىكة في قالب فني، يبرر إبادة الشعب الفلسطيني وسرقة أراضيه بحجة-مزورة- أنهم متخلفون وحمقي وعاجزين عن الصمود أمام الآلة الحديثة، كما تصورهم الأعمال الفنية والأدبية والصهيونية، وبذلك تستخدم الصهيونية نفس مبررات النازية عندما صنفوا شعوب العالم لدرجات، وليضحك كارل ماركس من قبره ضحكات مجلجلة فالتاريخ يعيد نفسه حقاً بحسب نظرية نيتشة، وإن إعادته علي تلك الصورة لمهزلة حقاً.

فاليهود هم شعب الله المختار المتقدم الواعي الذي يتصف بصفات البطولة، أما العرب فهم الجويبم أو الأغيار المهمشين المتخلفين الذين يشترون النساء ويبعونهم دون اعتبار للشرف، حسب الرؤية الصهيونية الاستعمارية الاستيطانية الإحلالية، وهو نفس المبرر الذي استخدمه الأمريكيون لإبادة الهنود الحمر، والغزاة الأوروبيين في إبادة التسمانيين سكان أستراليا، إننا في"زمن الخيول البيضاء"  أمام أبطال نبلاء سواء كانوا رجالاً أو نساء ثقفوا أنفسهم بالقراءة أو بالتجارب الحياتية المتراكمة ، عكس تلك الرؤية الظالمة المتجنية، صحيح أن الاحتلال التركي كان له أثراً بالغاً في تخلف البلدان العربية، فحكاية الدير وضياع الكواشين، قصة حقيقية جرت في قرية إبراهيم نصر الله، وسببها محاولة الأهالي التهرب من دفع الضرائب الباهظة للوالي العثماني، تلك الأزمة التي استطاع ظاهر العمر حلها، حين وضع الشام في يد أهله فانتظمت الأمور إلي حين، عاش العرب كلهم في تخلف شديد بينما العالم يتجه لعصر الآلة والذرة،، وهو ماوعاه الحاج خالد حين ظهرت أمامهم فجأة أول مستعمرة" تأمل الحاج خالد سعد صالح يحرث الأرض ببقرته وصعد نظره إلي المستعمرة، فرأي ذلك الجرار الذي يقلب الأرض رائحاً غادياً كرصاصة.

تنهد:إحنا وين وهم وين!!!

بطل الرواية الحاج خالد يتماهي مع هيكتور مروض الخيول، في حبه للخيول وتقديره لها، وشعور كلاً منهما الداخلي بحتمية السقوط والهزيمة أمام عدو يفوقه، لكنه رغم ذلك يقاومه حتي الموت، كما إن الهادية تلقي مصير طروادة من حصار ودمار وتقتيل وتشريد، لكن إنياس الطروادي بعد ذلك سيسافر غرباً نحو إيطاليا وهناك يؤسس رومل، كما جاء بعد ذلك في ملحمة الإنيادة لفرجيل، بينما الشعب الفلسطيني حلمه الدائم العودة إلي أرضه مهما كان الثمن، ورغم أن الرواية طويلة ودسمة وكل صفحة منها مشحونة بدفقات شعورية إلا إن فراقها صعب علي القارئ المخلص لفن الرواية، ويلح عليه ضميره لقراءتها مرة ثانية وثالثة حتي تتشبع روحه بتلك الملحمة البديعة، وبتغطيتها للتراب الفلسطيني من خلال تمركز الأحداث في قرية الهادية المتخيلة الواقعة في وسط فلسطين علي مقربة من القدس، ويمتد السرد ليبحر بنا عبر كافة الحدود الفلسطينية، ويغطي الأحداث الرئيسية في الطريق للنكبة، منذ نهايات الدولة العثمانية، مرنراً بالانتداب البريطاني، وثورة ١٩٣٦،وقانون الطوارئ الإنجليزي، واغتيال الجنرال أندروز، وشخصية فوزي القاوقجي الإشكالية وقيادته لجيش الإنقاذ العربي حتي المذابح اليهودية وسقوط فلسطين في يد العصابات الصهيونية، ويتراوح الخط السردي بين التاريخ بوقائعه وأبطاله الحقيقيين، وبين الأدب بنسيجه الشاعري الشفاف، الذي يجعلنا ننفذ بعيوننا وأفئدتنا إلي عمق المأساة الفلسطينية، ونتفهم الكثير من روح المقاومة حين يردد الحاج خالد(هيكتور الهادية):" أنا لا أقاتل كي أنتصر بل كي لا يضيع حقي"، ووسط مشاهد القتل والدم التي نراها علي صفحات الرواية، وعلي شاشات الأخبار تخترق عبارة إبراهيم نصر الله التي كررها في زمن الخيول البيضاء وفي قناديل ملك الجليل" لك يخلق الله وحشاً أسوأ من الإنسان، ولم يخلق الإنسان وحشاً أسوأ من الحرب".

المصادر :

1-قناديل ملك الجليل، إبراهيم نصر الله، الدار العربية للعلوم ناشرون ٢٠١٢.

2-زمن الخيول البيضاء، إبراهيم نصر الله، الدتر العربية للعلوم ناشرون٢٠١٢.

المراجع:

1-التطهير العرقي ضد الشعب الفلسطيني، إسلام شحادة معلول، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات ٢٠٢٣.

٢-في الأدب الصهيوني، غسان كنفاني، دار منشورات الرمال ٢٠١٥.

3-صك المؤامرة:وعد بلفور، جميل عطية إبراهيم، صلاح عيسي، دار الكرمة ٢٠٢٢.

٤-الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ، عبد الوهاب المسيري، دار الشروق، ٢٠٠١

٥-إبراهيم نصر الله في روايته الجديدة: زمن الخيول البيضاء، أحمد حرب، جريدة الأيام ١٧/٦/٢٠٠٨.

 

الأحد، 3 مارس 2024

سقوط العقارب

 

سقوط العقارب

 

تدور عقارب الساعة في سجنها الأزلي-راضية أم تعيسة؟ - تعض الأيام

 بناب الشمس والقمر، وبهطول المطر من السحب العائمة في محيط

 السماء الأزرق، وبعرق الأجساد من صهد الحر، وقشعريرتها من لسعة

 البرد، تحتضن العقارب بعضها وتتنافر في سجنها، لتفتتني ومع كل دورة

 تطعمني يوماً لتبتلعني  حين تشتهي في جوفها المعتم، وأتلاشي

 من الحياة وأسقط من الذكريات، كأن أبي لم يبارك لي يوماً علي نجاح،

 ولا قبلتني أمي في أعياد الميلاد، ولا انخطف قلبي لمرأي فتاة... وأذوب

 كأني قطعة سكر تغرق في قعر فنجان.

 

في المقهي المطل علي البحر، أري الموج يتحارب حربه اللامتناهية، ينزف

 الزبد علي الشاطئ، استمع إلي الغريب يتنهد والمرار يسقط من شفتيه"

 سرقني الوقت، لا أدري ماذا أفعل" أهمس لوحدتي" وأنا أيضاً سرقني

 الوقت، وسأبث شكواي في محكمة الأبدية، لكن لن يجئ ميعادي إلا

 حين يتداعي الوقت وتسقط كل العقارب، التي تلدغني في كل مكان

 وتدوي في رأسي ضحكاتها الساخرة".

السبت، 2 مارس 2024

عودة الضوء

 

عودة الضوء

 

جلس علي المقعد الجليدي في زاوية من الطابق العلوي للكافيه، يرقب من خلف الواجهة الزجاجية الغيوم وهي تتشابك سوياً منذرة بعاصفة، وعندما شحب ضوء الشمس وتواري خلف الغيوم السوداء المعتمة، شعر بحاجة ماسة للضوء، بل إن الضوء أهم من الأكسجين،وصرخ في أعماقه"الضوء يا ناس":

-يا منال!

نادي النادلة الشابة، فهرعت منال علي السلم:

-نعم يا أستاذ ياسر.

-هل النور مايزال مقطوعاً؟

-أجل.

رجع برأسه إلي الخلف وأغمض عينيه لثوان، وحين فتحهما كانت منال اختفت، واحتل الطاولة التي أمامه رجل أصلع بدبن وامرأة في الثلاثينات قصت شعرها بطريقة غلامية، الرجل يضع علي رأسه سماعات هيدفون عملاقة ويفتح اللابتوب ثم يكلم شخصاً ما، أما المرأة فقد انشغلت بالموبايل وهي تضع ساقاً فوق الأخري وتدخن سيجارة، ملأت خيوط دخانها المكان، والسحب ماتزال أمامه حبلي بالمطر، والكافيه يزداد ظلاماً.

-يا منال!

لو سمع ماتهمس به منال لنفسها لحظتها، لذعر من كمية الشتائم والسباب التي تجري علي لسان فتاة صغيرة ورقيقة مثلها، وهي تلعن نفسها وتلعنه وتلعن كل مايمت لحياتها بصلة، ظهرت منال بابتسامة لطيفة تخفي تحتها فيضان الضجر، وسألها:

-هل عندكم بن محوج؟

ولأول مرة يلحظ أن النبتة الموضوعة في الأصيص مصنوعة من البلاستيك.

-لقد نفد للأسف.

-حسناً... هاتِ لي... نسكافيه...أجل النسكافيه سيكون جيد.

أومأت منال وكتبت طلبه في نوتة صغيرة، أخرجتها من حيب مريلتها السوداء، ثم استدارت ناحية الزبونين الآخرين، طلبت المرأة سحلباً، وعندها شعر ياسر إنه كان عليه أن يطلب سحلب هو الآخر في جو بارد كهذا الصباح، لكنه خجل أن يلغي طلبه، أما الرجل فأشار لها بيده بالانتظار.

بعد دقائق صعدت منال السلم تحمل الصينية ببطء، والظلام يتوحش ليبتلع كل الموجودات أمامه، تأملها ياسر في صمت، فتاة صغيرة تسهي علي أكل عيشها، كم تتعرض لمضايقات بصورة يومية، ومعاناة في عمل كهذا، كافيه مفتوح لكل من هب ودب مادام يملك ثمناً لما يشرب، وكل قول أو فعل عليها أن ترد عليه بابتسامة من باب المجاملة، وليس علي الإنسان أن يبتسم طوال الوقت، يجب أن يصرخ ويعقد حاجبيه ويعلن اشمئزازه" ربما أكون أنا أحد عوامل معاناتها في الحياة" اعترف ياسر لنفسه بأسي" ولكن هذه هي الدنيا، أليس كل إنسان يسبب الألم والعذاب لغيره بطريقة ما، ولو حتي عن غير قصد، أليس كل إنسان يحمل في لسانه وقلبه سماً كسم الحية يبخه علي صاحب النصيب... الأباثيا الرواقية هاه هاه، محض هراء، إن الألم بتلقيه والتسبب فيه هو مايجعلنا بشراً نحيا علي سطح الأرض، أما الحكماء الأصفياء فليصعدوا إلي قمم الجبال وليجلسوا عليها ناظرين نحو الأرض كعجزة لا يقدرون علي تغيير طبيعة ساكنيها".

فجأة صاح الرجل البدين بحماس:

-ودخلت إلي عيد ميلادي ومعها هدية ضخمة بهذا الحجم.

ومد ذراعيه علي اتساعها، فخبط الصينية، فسقطت من منال، وامتزج السحلب بالنسكافيه بشظايا الزجاج المكسور، وقام الرجل مرتبكاً متأسفاً، وقالت المرأة:

-حصل خير.

ركعت منال لتلملم أشلاء الصينية، علي ضوء كشاف موبايل المرأة، بينما انسل ياسر من خلفها وهبط علي السلم، فاستوقفته:

-سأحضر لك كوباً غيره.

-لا... لا يهم.

خرج إلي الشارع، متلقياً لطمات الرياح وهبات الصقيع، وحانت منه نظرة جانبية فسمع امرأة تعنف ابنتها الصغيرة، والبنت تبكي بحرقة، وتقدم صوب البحر فشاهد جولة من جولات الصراع السيزيفي الأبدي للموج مع الرمال والصخور، وفكر من جديد في منال"هل ستدفع هي ثمن الأكواب المنكسرة، هل سيعنفها صاحب المقهي كما عنفت المرأة ابنتها، وفجأة انسكب علي جسده المطر من أبواب السماء المفتوحة... وحينها أشرقت الشمس وغمر الضوء كل مكان.